في زوايا الوعي الخفية لا تُبنى القرارات دائماً على ميزان من عدل، بل كثيراً ما ترجحها كفة الانطباع ويهمس في أذنها ماضٍ لم يستأذن، فالإنسان لا يصدر حكمه من فراغ بل من زحام غير مرئي من التجارب والذكريات والمزاج والتوقيت.
في كتاب الضجيج لدانيال كانيمان ومجموعة من الباحثين، يتضح أن المشكلة ليست في اختلاف الأحكام بل في اختلافها بلا سبب منطقي، فقد يُعرض على قاضيين ملف واحد فيخرجان بحكمين متباينين، لا لأن القانون يتيح التأويل بل لأن مزاج أحدهما كان أفضل من الآخر.
الضجيج ليس خطأ بل تفاوتاً، وهو أخطر لأنه غير محسوس، وهو لا يقتصر على القضاء، بل يمتد إلى الأطباء والمعلمين والمديرين والقادة، إذ تحكمهم أحياناً مشاعر مؤقتة أكثر مما تحكمهم معايير واضحة.
وفي كتاب آخر يصف كانيمان الأمر كصراع بين نظامين في التفكير: سريع حدسي يركض نحو الاستنتاج، وبطيء متأنٍ يحتاج جهداً وطاقة. ولأننا بطبيعتنا نميل إلى السهل والسريع، فإن أحكامنا كثيراً ما تبنى على أول انطباع أو قصة مريحة نحب تصديقها، بل إن تأثير الهالة يجعلنا نحكم على الإنسان من مظهره أو لطفه لا من كفاءته.
كيف نقاوم هذا الضجيج؟ أحد الحلول أن نستعين بما هو خارج الذات: بالأرقام والحقائق، فنحن نعيش زمناً وفيراً بالبيانات القادرة على تقليل التحيز إذا استخدمت بحكمة لأن الأرقام لا تغضب ولا تحب. لكن الإفراط في الاعتماد على البيانات يولد جفافاً آخر، فحتى أدق الخوارزميات لا تفهم ألم مريض، ولا صمت موظف يختنق بالهم.
القرار الحكيم هو الذي يجمع بين العقل والتحليل من جهة، والإحساس والخبرة من جهة أخرى. أن نعرف متى نصغي للبيانات ومتى نثق بحدس صادق.
ومن أخطر مصادر التشويش «وهم التكرار» فكل ما يُقال كثيراً يبدو لنا صادقاً، فحين يتكرر وصف إنسان بالكذب نصدقه ولو لم نرَ كذبه، لأن الدماغ يربط التكرار بالصدق. هنا يصبح الخطر في التكرار لا في الكذب ذاته. لهذا نحن بحاجة إلى محفز للشك الإيجابي نراجع به أحكامنا قبل إطلاقها.
في الإدارة الحديثة أدوات بسيطة تحد من هذا الانحراف، مثل المراجعات الجماعية والأسئلة المعيارية والتأجيل المتعمد للقرار، فالحكمة ليست أن نحكم سريعاً، بل أن نعرف متى لا نحكم، أن ندرب عقولنا على التمهل ونمنح أحكامنا ما تحتاجه من صبر، لتصدر عن بصيرة لا ضجيج.