وحضرت صور كثيرة، كأنني أرى أول يوم خطت فيه قدماي داخل مبنى «تلفزيون الإمارات العربية المتحدة من دبي – القنال 2» ذات مساء من مساءات صيف عام 1974م، بصفتي مذيعاً، بعد أن كانت الكتابة وحدها تستحوذ على كل اهتماماتي.
كنت وقتها طالباً على مقاعد الدراسة الثانوية، استهوتني الكتابة فانطلقت أمارس هوايتي هذه على صفحات مجلة «أخبار دبي» التي احتضنتني، مثلما احتضنت العشرات غيري من الذين انطلقوا يمارسون هواية الكتابة على صفحاتها.
مرّ أكثر من خمسين عاماً على تلك اللحظة، ومع ذلك ما زلت أشعر بأن للكاميرا رهبتها، وأن العلاقة بيني وبين التلفزيون ليست علاقة مذيعٍ بوسيلة، ولا علاقة موظفٍ بوظيفة، بل علاقة عمرٍ كامل، تشاركت فيه مع زملائي رواد الإعلام التلفزيوني في الإمارات التحديات والأحلام والنجاحات، والخيبات أحياناً، وتقاسمنا فيه تفاصيل كانت أكبر من مجرد لحظاتٍ وصورٍ عابرة.
يومها، كان التلفزيون هو الصوت المسموع، والصورة الصادقة، والنافذة التي نطل منها على قضايا السلام والأمن والتنمية. كان التلفزيون أقرب إلى ضميرٍ جماعي يذكرنا بأن العالم أكبر من حدودنا، وأن الحياة جارية خارج غرفنا، مهما طال اعتكافنا في تلك الغرف.
عرفت صوت المخرج وهو يصرخ متوتراً، وعشت احتشاد المذيع حين يأتي خبر عاجل، وأحسست بخفقان القلوب حين تتحول صالة التحرير إلى سباقٍ مع الزمن. هذه التفاصيل، التي قد تبدو للبعض صغيرة، هي ما تجعل التلفزيون أكبر من مجرد جهاز. إنه حياةٌ كاملةٌ تتحرك خلف الكواليس كي تصل الحقيقة إلى الناس بأفضل صورةٍ ممكنة.
كما كان يفعل قبل عقود، ولم تعد غرف الأخبار هي المصدر الأول للخبر. الهاتف المحمول أصبح أسرع، والمنصات أصبحت أكثر صخباً، والأخبار تنصبّ فوق رؤوسنا كما تتدفق الأمطار في مواسم العواصف.
ومع ذلك، فإنني حين أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام، أدرك أن السرعة ليست بديلاً عن الحقيقة، وأن السبق ليس بديلاً عن العمق، وأن وسائل التواصل الاجتماعي لم تستطع أن تسلُب التلفزيون أهمّ ما يملكه؛ الشفافية والصدق والأمانة.
هي تتغير، نعم... تتجدد، نعم... لكنها لا تختفي. التلفزيون الذي عرفته قبل أكثر من خمسة عقود لم يعد هو التلفزيون الذي نشاهده اليوم، ولن يكون هو التلفزيون الذي سيعرفه أحفادنا غداً، لكنه يبقى حاضراً لأنه قادرٌ على أن يمنح الصورة ألقها، وأن يعطي الخبر وزنه، وأن يصنع لغةً مشتركةً يتواصل من خلالها الناس مهما اختلفت ثقافاتهم.