خريطة طريق لريادة الإمارات في الصحة 2035 15-7

ثورة الجينوم والطب الدقيق – نحو طب شخصي أكثر فعالية

انتقل الطب العالمي في العقدين الأخيرين من علاج «المرض» إلى فهم «الإنسان».

ومع التقدم الهائل في علوم الجينوم والطب الدقيق أصبح من الممكن تصميم العلاج كما تصمم البصمة الوراثية لكل فرد.

وفي قلب هذه الثورة تقف دولة الإمارات، التي لم تكتفِ بالمواكبة، بل أطلقت أحد أكبر البرامج الجينومية في العالم نسبة إلى عدد السكان، لتؤسس نموذجاً إماراتياً فريداً يجمع بين العلم والرؤية... وبين المعرفة والرحمة.

مشروع الجينوم الإماراتي: خطوة تاريخية نحو طب المستقبل

أطلق برنامج الجينوم الإماراتي (Emirati Genome Programme) عام 2019 بإشراف دائرة الصحة – أبوظبي، وشركة G42 للتقنيات الحيوية، بهدف بناء قاعدة جينومية وطنية تدعم التحول إلى الطب الدقيق.

حتى مارس 2025:

• تم جمع وتحليل أكثر من 700,000 عينة وراثية من المواطنين الإماراتيين.

وبحلول أكتوبر 2025:

• تجاوز العدد 800,000 عينة، وفق تقارير رسمية من دائرة الصحة ومكتب أبوظبي الإعلامي.

والهدف الاستراتيجي:

تحليل مليون جينوم إماراتي بحلول 2030 — لتصبح الإمارات واحدة من أكثر الدول تغطية ورسماً للهوية الوراثية لسكانها.

كما أنشأ البرنامج أول مرجع جيني إماراتي وطني يستخدم، اليوم، في الأبحاث المتعلقة بالسرطانات، وأمراض القلب الوراثية، والثلاسيميا، وفقر الدم المنجلي، وغيرها.

من الجين إلى القرار الطبي

يهدف الطب الدقيق إلى تحويل البيانات الوراثية إلى قرارات علاجية فردية، فبدل وصف الدواء ذاته للجميع تحدد الجرعة ونوع العلاج بناء على التركيب الجيني لكل مريض.

تشير الدراسات إلى أن تطبيق الطب الشخصي:

• يقلل الأخطاء الدوائية بنسبة تصل إلى 40%.

• ويرفع فعالية العلاج بنسبة 60%.

وفي الإمارات تحول الطب الدقيق إلى ممارسة وطنية واضحة عبر برامج متقدمة، أبرزها:

1. الفحص الجيني قبل الزواج (2024)

• يغطي 570 جيناً مرتبطاً بـ 840 مرضاً وراثياً.

• استفاد منه 8,987 زوجاً حتى سبتمبر 2025.

• أظهرت النتائج أن 92% من الأزواج متوافقون وراثياً.

2. المسح الجيني لحديثي الولادة

• يغطي 733 جيناً للكشف عن أكثر من 800 اضطراب وراثي قابل للعلاج المبكر.

• يعد من أكثر البرامج شمولاً في المنطقة.

هذه البرامج لا تكتفي بالكشف، بل تمنع الأمراض قبل ولادتها، وتقلل العبء الصحي والمالي على الدولة لعقود مقبلة.

*البيئة التشريعية والبحثية في الإمارات

ولضمان الاستخدام الآمن لهذه الثورة العلمية أصدرت الدولة:

القانون الاتحادي رقم (49) لسنة 2023 بشأن الجينوم البشري.

والذي ينص على:

• حماية البيانات الوراثية.

• منع التمييز الجيني.

• ضبط استخدام المعلومات الوراثية لأغراض البحث والعلاج فقط.

• إخضاع التحاليل الجينية لضوابط صارمة.

كما أُنشئ مجلس الإمارات للجينوم برئاسة سمو الشيخ خالد بن محمد بن زايد، لضمان تكامل الجهود الصحية والبحثية.

ومن الناحية البحثية:

• تأسس مركز أوميكس للتميز — أحد أكبر مراكز التحليل الجيني في الشرق الأوسط، بدقة تصل إلى 99.7% باستخدام تقنيات NGS.

• إنشاء بنك حيوي روبوتي في دبي بسعة تخزين تصل إلى 7 ملايين عينة بشرية لدعم الأبحاث الدوائية وتطوير الصناعات الحيوية.

الطب الدقيق والذكاء الاصطناعي.. شراكة لرسم المستقبل

عبر أحد أقوى الحواسيب العملاقة في المنطقة (Artemis – G42)، تحلل ملايين المتغيرات الوراثية خلال دقائق.

هذه الخوارزميات قادرة على:

• تحديد الطفرات الخطيرة.

• توقع احتمالات الإصابة بالسكري والسرطان وأمراض القلب.

• بناء خرائط مخاطر صحية للسكان.

• ربط النتائج الجينية بالسجلات الطبية عبر منصات مثل «ملفي» و«نابض».

والنتيجة:

صورة صحية متكاملة لكل مريض.. تُيح للطبيب أن يعالج المستقبل قبل أن يصبح حاضراً.

الأثر الصحي والاقتصادي.. استثمار في صحة الإنسان والاقتصاد وفق تقديرات دائرة الصحة – أبوظبي لعام 2024:

• سيخفض الطب الدقيق تكاليف الرعاية الصحية بنسبة 25–30% بحلول 2035.

• سيسهم القطاع الجينومي في خلق أكثر من 3,000 وظيفة متخصصة خلال السنوات العشر المقبلة.

• سترتفع مساهمة قطاع علوم الحياة في أبوظبي إلى 32 مليار دولار بحلول 2031.

• ستستقطب الإمارات 24 مصنعاً للأدوية والتقنيات الطبية و22,000 فرصة عمل جديدة.

إنها ليست «ثورة علاجية» فقط بل ثورة اقتصادية تدعم الأمن الصحي والاقتصاد المعرفي معاً.

مقارنات عالمية ودروس مستفادة

تسير الإمارات بخطى ثابتة بين كبرى الدول التي تبني مشاريع جينومية وطنية:

• المملكة المتحدة:

أنجزت مشروع 100K Genomes، وتسعى لتسلسل جينوم كل مولود بحلول 2030 عبر استثمار 650 مليون جنيه استرليني.

• كوريا الجنوبية:

تنفذ مشروع «البيانات الحيوية الضخمة» لتسلسل مليون جينوم بحلول 2032، بميزانية تقارب 420 مليون دولار، وقد جمعت 80 ألف عينة فقط حتى نهاية 2024.

• الصين:

استثمرت 9 مليارات دولار ضمن خطتها الخمسية، وتستهدف تحليل 100 مليون جينوم بحلول 2030، مع تخفيض تكلفة التسلسل إلى أقل من 100 دولار للجينوم الكامل.

ورغم ضخامة هذه المشاريع، تتفوق الإمارات في:

• سرعة الإنجاز.

• نسبة تغطية المواطنين.

• التكامل بين البيانات والسجلات الطبية.

• الإطار التشريعي المتقدم.

نحو رعاية صحية مصممة على مقاس الإنسان

لم تعد الإمارات تسعى لعلاج الأمراض فحسب، بل لبناء نظام صحي يعرف الإنسان كما يعرف جيناته.

إن الطب الدقيق يحول الرعاية الصحية إلى منظومة استباقية، تصمم فيها الوقاية والعلاج وفق الهوية الجينية لكل مريض.

إنها رحلة علمية وإنسانية تضع الإمارات في مقدمة الدول التي تكتب مستقبل الطب، لا تستهلكه.

المقال القادم:

التعليم الطبي والبحث العلمي – بناء قدرات وطنية لقيادة المستقبل الصحي (٨/١٥)