اللافت في الضربة الأوكرانية التي استهدفت عمق روسيا، ليس أنها غير مسبوقة في حجمها أو في نوعها أو في مداها، ولكن اللافت حقاً أنها تمت بينما وفدان من البلدين يتحلقان حول طاولة للتفاوض في تركيا على وقف الحرب!
من قبل، وعلى مدى ثلاث سنوات وبضعة أشهر هي عمر الحرب، كانت الولايات المتحدة ترفض مد أوكرانيا بسلاح يصل مداه إلى العمق الروسي، وكانت روسيا تحذر طول الوقت من الذهاب إلى هذا الحد، وكانت واشنطن تسمع وتدرك معنى تحذير موسكو، وكان ذلك كله في أيام الرئيس الأمريكي السابق، جو بايدن.
وجاء عليه وقت في آخر أيامه في البيت الأبيض قرر فيه مد الأوكرانيين بسلاح يصل في مداه الى مناطق بعيدة داخل روسيا.. كان ذلك مما أزعج العالم وقتها، ولم يزعج الروس وحدهم، لأن معناه كان أن تتطور المواجهة الروسية الأوكرانية إلى مواجهة عالمية بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهي مواجهة يحرص الطرفان وحلفاؤهما كل الحرص على عدم الوصول إليها.
صحيح أن الحرب منذ بدايتها كانت تدور بين روسيا وحلفاء لها على جبهتها، وبين أوكرانيا ومن ورائها الولايات المتحدة وأوربا وحلفاؤهما، ولم تكن تدور بين روسيا وأوكرانيا في حدودهما، ولكن الطرفين على الجبهتين كانا متمسكين بأن تكون الحرب محسوبة، وأن تبقى مقيدة بضوابط لا تذهب بها إلى ما هو أبعد مما تجري فيه.
وحتى عندما قرر بايدن إمداد كييف بسلاح بعيد المدى، كان ذلك فيما يبدو على سبيل التلويح والتهويش، لأننا لم نسمع من بعدها أن أوكرانيا استهدفت مناطق بعيدة عن ميدان القتال على الحدود، اللهم إلا في مرات نادرة ومحسوبة أيضاً.
غير أن هذه المرة تبدو وكأنها عملية انتحارية أوكرانية شاملة، وتبدو وكأن أوكرانيا أرادت بها أن تصيب الروس بدرجات من الفزع لم يعرفوها على مدى أيام الحرب، وتبدو وكأن الرئيس الأوكراني قرر بها الكشف عن إمكانات لدى جبهته ليست ككل الإمكانات.
وإلا.. فماذا تقول في عملية تستهدف شرق سيبيريا، وعلى مسافة تبعد عن الحدود المشتركة 4300 كيلومتر؟ ماذا تقول في عملية تستهدف 4 مطارات عسكرية في وقت واحد؟.. ماذا تقول في عملية قيل في تفاصيلها المنشورة إن الإعداد لها استغرق عاماً ونصف العام؟.. ماذا تقول في عملية دعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى استدعاء أركانه العسكرية لاجتماع على وجه السرعة؟.. ماذا تقول في عملية قيل إنها تمت بطائرات مسيرة، وأن هذه الطائرات المسيرة جرى تهريبها عبر الحدود في حاويات تحملها شاحنات؟.. ماذا تقول عندما تقرأ أن هذه الحاويات قد تم إفراغها في منطقة داخل روسيا معلومة سلفاً لدى الأوكرانيين، ومن عندها انطلقت المسيرات إلى هدفها؟.. ماذا تقول في عملية قيل أنها جرت في الكثير من مراحلها باستخدام وسائل الذكاء الاصطناعي؟.. ماذا تقول في عملية أشرف عليها الرئيس الأوكراني بنفسه وشخصياً؟
إنني لو رُحت أحصي وأعدد ما قيل عنها من تفاصيل، فلن انتهى مما قيل ولا يزال يقال عن عملية هي الأعجب والأكبر منذ بدء الحرب قبل أكثر من ثلاثة أعوام. إن عملية كهذه تظل أكبر بكثير من الإمكانات المتوافرة لدى أوكرانيا كدولة، والمعنى أن هذه إمكانات أمريكية أو غربية في العموم.. وفي الغالب أمريكية رغم ما نعرفه عن وقف المساعدات الأمريكية العسكرية لأوكرانيا منذ مجيء ترامب أو الإقلال منها.. ولكنك لا تستطيع إلا الربط بين الضيق الذي اعترى ترامب مؤخراً تجاه بوتين بسبب عدم مرونته، ومماطلته في وقف الحرب، وبين ظهور هذه الإمكانات الكاسحة لدى الأوكرانيين دون مقدمات.
لقد انتقل ترامب من مرحلة كان فيها عند بدء دخوله البيت الأبيض، لا يتوقف عن كيل المديح للرئيس الروسي والثناء عليه، إلى مرحلة أخيرة راح يصفه فيها بالجنون، وباللعب بالنار، وبأشياء كثيرة لم يكن لها وجود بينهما من قبل.
وعندما يحدث هذا وبشكل ظاهر ولافت جداً، فإن تحولاً على مستوى كهذا لابد أن تتوازى معه ترجمة عملية له على الأرض. وليس من شك في أن عملية شرق سيبيريا التي اشتهرت بأنها عملية عين العنكبوت هي شكل من أشكال الترجمة العملية للتحول الطارئ لدى ترامب.
وقيل دائماً إن أطرافاً متحاربة إذا التقت على طاولة للتفاوض، فإن موقع كل طرف عليها يقاس في الغالب بمدى ما له من مكاسب متحققة في ميدان القتال.. ولذلك، فلا يمكن لنا إلا جمع كل هذه التفاصيل في إطار واحد، ولا يمكن أن تكون عملية شرق سيبيريا إلا محاولة من جانب أوكرانيا لحجز موقع متقدم على الطاولة في أنقرة.. ومن هنا إلى وقف الحرب، سوف يتصارع الطرفان على جبهات القتال، وسوف يفعل كل طرف ذلك بينما عينه على الطاولة هناك لدى الأتراك.