هل يمكن لدولة صغيرة حجماً أن تصبح قوة فضائية كبرى؟

مع كل إنجاز فضائي تعلن عنه دولة الإمارات، يتكرر سؤال جوهري لدى البعض: كيف يمكن لدولة صغيرة جغرافياً، ولا تمتلك إرثاً فضائياً عريقاً، مثل الإمارات، أن تنافس قوى كبرى عمر برامجها الفضائية عقود؟

هل يمكن لنا حقاً أن نكون لاعباً أساسياً، وأن نصنع فارقاً في قطاع يحتاج إلى استثمارات ضخمة، وتقنيات متقدمة، وخبرات متراكمة؟

السؤال مشروع، لكن الإجابة عنه تحتاج إلى إعادة تعريف لمفهوم «القوة الفضائية»، وأهميته الاستراتيجية. والخطوة الأولى في الإجابة عن هذا السؤال، تكمن في إدراك أن الفضاء اليوم لم يعد حكراً على الدول العظمى، ولا يعتمد على حجم الأراضي أو تعداد السكان، أما الإرث التاريخي، على أهميته، لم يعد معياراً حاسماً لبناء المستقبل.

معيار النجاح اليوم، هو القدرة على الابتكار، وبناء الشراكات، وتوظيف وتأهيل الكفاءات، والدخول في سلسلة القيمة الاقتصادية للفضاء، بدل الاكتفاء بدور المستهلك للتقنيات التي يطورها الآخرون.

فالدول التي تستورد التكنولوجيا الفضائية، مهما بلغ حجم إنفاقها، ستظل على أطراف المشهد، أما الدول التي تملك القدرة على التطوير والتصنيع والتشغيل، فهي التي ستكون جزءاً من اقتصاد فضائي عالمي، يتوقع أن تتجاوز قيمته تريليون دولار بحلول 2040.

قبل أيام قليلة، شهدت الدولة افتتاح منشأة «أوربت ووركس»، أول منشأة متكاملة في الشرق الأوسط لتصنيع وتجميع الأقمار الصناعية، والتي ستبدأ بإنتاج أول كوكبة تجارية محلية على مستوى الشرق الأوسط، وأول أسطول إماراتي لمراقبة الأرض مزود بالذكاء الاصطناعي. هذه الخطوة ليست مجرد إنجاز تقني، بل هي إنجاز اقتصادي بامتياز، لأن امتلاك القدرة على الإنتاج، يعني أن دولة الإمارات أصبحت في قلب سلسلة القيمة، لا على هامشها.

لهذا السبب، وصلت استثمارات الدولة في قطاع الفضاء إلى ما يقارب 44 مليار درهم، كما تستحوذ دولة الإمارات اليوم على نحو نصف استثمارات رأس المال الجريء في منطقة الشرق الأوسط، في الوقت الذي ارتفع فيه الإنفاق التجاري في قطاع الفضاء في الدولة بنسبة 30 % خلال العام الحالي، ليصل إلى 45 % من إجمالي الإنفاق على قطاع الفضاء.

هذه الأرقام ليست مجرد نسب مالية، بل هي مؤشرات على اقتصاد حقيقي قيد التشكل، اقتصاد يجعل دولة الإمارات وجهة أولى للشركات والمواهب ورواد الأعمال، وهو ما تعمل وكالة الإمارات للفضاء على تطويره، عبر مشاريع استراتيجية، تغطي سلسلة الإمداد الفضائي، بما في ذلك تطوير الصواريخ والمحركات والأقمار الصناعية. والهدف هو بناء أفضل اقتصاد فضائي مستدام في العالم، بحلول عام 2031.

ولكن، لماذا حققت الإمارات هذا التقدم خلال فترة قياسية في قطاع متقدم ومكلف؟

لأنها ببساطة لا تعمل وحدها، فالاقتصاد الفضائي بطبيعته اقتصاد تشاركي، لا يمكن للحكومات أن تقوده منفردة، ولا يستطيع القطاع الخاص النجاح فيه بلا بيئة ممكّنة. والنموذج الإماراتي يعتمد على حكومة تمكّن وتشرّع وتبني البنية التحتية، وقطاع خاص يبتكر وينافس ويصنع، وشراكات عالمية، تدعم تبادل المعارف، وتوفير التكنولوجيا المتقدمة، ومنظومة تعليم وبحث علمي تخرّج كفاءات بشرية قادرة على المنافسة والتميز.

القيمة الحقيقية للفضاء، ليست في إطلاق الأقمار الصناعية نفسها، بل في الاقتصاد الذي يُبنى حولها وينتج وظائف، وصناعات، وبيانات متقدمة، وحلول مناخية، وتطبيقات ذكاء اصطناعي، واستثمارات عابرة للحدود، وتنمية مستدامة تخدم الإنسانية.

في نهاية المطاف، تقوم معادلة دولة الإمارات في طموحها الفضائي، على تحويل الفضاء إلى قيمة: قيمة اقتصادية، تسهم في تنويع مصادر الدخل، وقيمة علمية توسع حدود المعرفة، وقيمة إنسانية ترتقي بحياة المجتمعات.

لذلك، فإن معيار القوة الفضائية لم يعد يقاس بحجم الدول أو إرثها التاريخي، بل بامتلاكها رؤية واضحة، وإرادة قادرة على تحويل المعرفة إلى اقتصاد، والابتكار إلى قيمة مضافة. والدول التي تدرك هذا التحول، كما فعلت الإمارات، هي التي ستصوغ مستقبل حضورها في الاقتصاد الفضائي العالمي، لا باعتبارها دولة صغيرة أو كبيرة، بل باعتبارها دولة تملك رؤية تصنع بها المستقبل.

وزير الرياضة ورئيس مجلس إدارة وكالة الإمارات للفضاء