جراحة عبر القارات

ربما لم يدُر بخلد «أبو الجراحة الحديثة» أبوالقاسم الزهراوي، الذي ذاع صيته في الأندلس قبل ألف عام، أن يأتي يوم تُجرى فيه عمليات جراحية دقيقة من دون أن يجتمع الجرّاح ومريضه في الغرفة نفسها، ولا حتى في القارة نفسها!

ذلك الطبيب العبقري الذي ابتكر عشرات الأدوات الجراحية، وأسس منهجاً صار مرجعاً في أوروبا لخمسة قرون، ربما لم يكن يتصور أن يواصل أحفاده العرب المسيرة بطريقة مختلفة تماماً... عبر الجراحة عن بُعد.

أضحى عالمنا اليوم يعيش عصر «الحلول عن بُعد» في أبهى صوره.

وكان آخر الإنجازات العربية اللافتة ما حققه فريق طبي كويتي ماهر في عام 2025 حين دخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية بإجراء أبعد جراحة روبوتية عن بُعد في التاريخ، من مستشفى جابر الأحمد في دولة الكويت إلى مريض يرقد في مستشفى في البرازيل يفصلنا عنه أكثر من 12 ألف كيلومتر.

إنه إنجاز يبدو للوهلة الأولى قادم من الخيال العلمي، ولكنه حدث فعلاً في شتى الدول العربية والأجنبية.

العملية التي نفذها كل من د.سليمان المزيدي، ود.مهند الحداد، ود.حمود الرشيدي وزملاؤهم، أثبتت أن الجراحة لم تعد حبيسة الجدران الأربعة، وأن المهرة قادرون على تقديم خدمة عالية الجودة مهما تباعدت المسافات. لقد تحكم الأطباء في الروبوت كما لو كانوا يقفون عند رأس المريض، وبنسبة دقة تتجاوز قدرة اليد البشرية.

وتشير تقارير «مايو كلينك» و«كليفلاند كلينك» إلى أن الجراحة الروبوتية ترفع مستوى الدقة، وتقلل مضاعفات ما بعد الجراحة، وتوفر رؤية مكبّرة تصل إلى 10 أضعاف، وتسمح للآلة بالدوران بزوايا تتجاوز قدرة الرسغ البشري.

وهو ما يعني أن الجرّاح صار في مقدوره استخدام أدوات الزهراوي من مباضع ومشارط دقيقة إلى ملاقط ومقصات ووسائل التحكم بالنزيف، ولكن عبر شاشة وربوت وأذرع ميكانيكية شديدة الحساسية.

حتى الخيوط التي ابتكرها الزهراوي من أمعاء الحيوانات لخياطة الجروح، نراها اليوم تُستخدم بطرق مذهلة جداً عبر روبوت يقوم بلفّها وربطها داخل الجسم في مساحة لا تتعدى بضعة ملّيمترات.

ولم تعد الحلول عن بُعد مقصورة على القطاع الطبي، بل صارت تمتد إلى معظم احتياجات البشر، فقد أثبتت التجارب أن كثيراً من الخدمات لا تتأثر جودتها بغياب التواجد الجسدي.

ومن أبرز الحلول التي تزدهر عالمياً اليوم، الاستشارات القانونية، والأسرية والنفسية والصيدلانية فضلاً عن الرعاية المنزلية الذكية عبر ساعات وأجهزة تقيس النبض والأكسجين والضغط وترسلها للطبيب فوراً. بالإضافة إلى إدارة الأزمات من خلال غرف تحكم افتراضية تشارك فيها عدة دول في الوقت نفسه.

وعليه فإن الحكومات حول العالم معنية بدعم هذا القطاع الذي تتضاعف الحاجة إليه يوماً بعد يوم، سواء عبر تمكين شبكات اتصال متقدمة مثل 5G وما بعدها، أو دعم مراكز الجراحة الروبوتية، أو تشجيع الشركات على ابتكار حلول تُدار عن بُعد.

ما بدأه الزهراوي قبل ألف عام، من أدوات دقيقة ومنهج علمي رصين، تكمله أذرع روبوتية تعمل بإخلاص عبر قارات العالم، لإنقاذ حياة الناس في المدن والقرى النائية والمناطق المنكوبة.

ولذلك نحتاج إلى مزيد من الميزانيات الضخمة لتقديم شتى أنواع العلاجات والحلول عن بعد. فمن يدري؟ ربما يتطور الأمر أكثر ويجتمع الأطباء من شتى القارات لعلاج مريض في قارة أخرى، إن لم يكن قد حدث بالفعل.