مريم بنت محمد.. هوية الأجيال

حين تأملت كلمات سمو الشيخة مريم بنت محمد بن زايد آل نهيان عن الهوية الوطنية، شعرت بأن ما قالته هو حديث من القلب، نابض بالوعي والحنان، يلامس جوهر الإنسان، وحين قالت إن الهوية الوطنية إرث نعتز به وأمانة نحملها في قلوبنا، استحضرت معنى الهوية كعلاقة حب ومسؤولية، وكجذور تمتد في الوجدان قبل أن تُترجم في السلوك.

ما تطرحه سمو الشيخة مريم هو رؤية تتجاوز المفهوم التقليدي للهوية، بل هي تعني القيم والخيارات الواعية، أي أن الهوية هي فعل إنساني مستمر، ممارسة يومية تُترجم في البيوت والمدارس والمجتمع. وهي أيضاً انعكاس لتربية، ونتاج لثقافة، وتجسيد لمسؤولية مشتركة بين الأجيال.

في تجربتي كباحثة في علم الاجتماع، وصاحبة أول مؤلف إماراتي عن الهوية، وهو كتاب «هويتي»، لطالما رأيت أن الهوية تتشكل مثل نهر، تتغذى من روافد كثيرة، لكنها تحتفظ بجريانها واتجاهها. إنها مشروع إنساني متجدد، يتطور مع المجتمع ويعبر عن وعيه بذاته.

ومن هنا يأتي عمق المبادرة التي أطلقتها دولة الإمارات في استراتيجية الهوية الوطنية، والتي جاءت لتؤكد أن الهوية هي فعلاً ممارسة حية تتجدد في السلوك واللغة والتفاعل الإنساني.
حين نقرأ كلمات سمو الشيخة مريم، ندرك أن هذه الاستراتيجية تعيد الاعتبار للهوية بوصفها منظومة أخلاقية، وهي تربية ومسؤولية كبرى. إنها تدعو كل فردٍ في المجتمع إلى أن يكون حارساً لهذه الأمانة في حياته الخاصة والعامة، في بيته، في عمله، وفي طريقته في تمثيل وطنه أمام العالم، وتلك الأمانة تبدأ من الأسرة، فهي الحاضنة الأولى للهوية.

في البيت، يتعلم الطفل اللغة واللهجة، ويكتسب مفاهيم الكرم والاحترام والعطاء، وهي القيم التي صنعت الشخصية الإماراتية عبر الزمن. وحين تنتقل هذه القيم إلى المدرسة، يصبح التعليم امتداداً للبيت، ويغدو المنهج جزءاً من بناء الشخصية الوطنية التي نعتز بها.

إن ما يميز الرؤية التي قدمتها سمو الشيخة مريم هو إيمانها بأن الهوية ليست حكراً على فئة دون أخرى، بل هي مظلة تشمل الجميع: مواطنين ومقيمين، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً. فالإمارات بما تحمله من تنوع ثقافي أصبحت نموذجاً عالمياً في تحويل التعدد إلى مصدر قوة، وفي بناء وحدة إنسانية قائمة على الاحترام المتبادل، بمعنى أن الهوية تتجسد في القيم المشتركة التي يعيشها الناس معاً تحت سماء واحدة.
أشعر ونحن ندخل عصر العولمة الرقمية بأن هذه الاستراتيجية جاءت في وقتها، لأن الهويات في العالم اليوم تواجه تحديات غير مسبوقة. فالفضاء الرقمي لا يعرف الحدود، والإنسان يعيش بين شاشات تُعيد تشكيل أفكاره وأذواقه.

ومع كل هذا الانفتاح، هناك حاجة إلى بوصلة داخلية تحافظ على توازن الإنسان، فلا يفقد وعيه ولا ينقطع عن جذوره، والهوية الوطنية يجب أن تصبح قوة روحية تحفظ للإنسان أصالته وسط هذا الضجيج، وتمنحه القدرة على الحوار مع العالم بلغةٍ تنبع من ذاته.

في الاستراتيجية، وجدت أن دمج الهوية في المشهد الرقمي من خلال مبادرات مثل مختبر رمسة لترميز اللهجة الإماراتية، ومشروعات المحتوى الثقافي الوطني، هو خطوة ذكية تجعل الهوية حاضرة في وسائط العصر دون أن تفقد عمقها. فالهوية عندما تُترجم بلغة التكنولوجيا تصبح طاقة معرفية، تسهم في بناء الوعي وتحصين المجتمع فكرياً وروحياً.

أقف طويلاً عند حديث سمو الشيخة مريم عن الأطفال والشباب باعتبارهم الامتداد الطبيعي للهوية. هذه العبارة تلخص فلسفة كاملة في التربية الوطنية. إن الجيل الجديد هو المرايا التي تعكس مستقبل الأمة، وإذا غابت الهوية عن تربيته، غابت الملامح عن وجه الوطن. لذلك، فكل بيت ومدرسة ومؤسسة تتحمل اليوم مسؤولية المشاركة في غرس هذا الانتماء الواعي الذي يجمع بين الفخر والانفتاح، بين الاعتزاز بالجذور والقدرة على الحوار.

هذه الرؤية الشاملة تجعل من الهوية مشروع حياة تتجلى في سلوك الناس، في فنهم، في لغتهم، في طريقة تعاملهم مع العالم. إنها تعبير عن وطنٍ استطاع أن يبني معادلة نادرة بين الأصالة والتطور، بين التقاليد والمستقبل. هذه هي الروح التي تضيء الطريق أمام الأجيال القادمة، وتجعل من الهوية الإماراتية مشروعاً إنسانياً متجدداً يحمل الأمانة من جيلٍ إلى جيل.

إنها دعوة لأن نحيا الهوية، وأن نجعل منها مرآةً تعكس ما فينا من صدق ومحبة وإيمان، وتلك هي الأمانة التي نحملها في قلوبنا، وتلك هي الرسالة التي تضيء معنى الانتماء في زمنٍ تتغير فيه كل الأشياء، ويبقى الوطن في القلب، واحداً لا يتبدل.