عندما كتب ميشيل فوكو في كتابه «نظام الخطاب» أن «في كل عصر ثمة نظام معرفي يحدد شروط الخطاب ويقرر ما يمكن التفكير فيه، وما لا يمكن حتى تصوره»، أثار بعداً فكرياً جديداً أنه لا يكفي أن نعرف «ما نعرفه»، بل ينبغي أن نسأل: من أين جاء هذا الممكن المعرفي؟
فالنظام المعرفي أساس للدولة المتحضرة، وتمكين يُحفر في اللاوعي الثقافي، وفي طريقة بناء الإنسان، وهو كما وصفه فوكو «أركيولوجيا معرفية» تنقب عن طبقات الفكر والخطاب في التاريخ، وإذا كان «البرادايم» الذي يُعرف بأنه النموذج الإدراكي الشامل والنسق الذهني للدولة لرسم ملامح الهوية والتوجهات المستقبلية للمجتمعات، هو المعمار الظاهر الذي ترتكز عليه المؤسسات، فإن النظام المعرفي هو الأساس غير المرئي والمنهج النقدي الرصين لفهم هذا التكوين.
ومن هذا المنظور، فإن قراءة التجربة الإماراتية لا يمكن أن تنفصل عن هذا النظام المعرفي، بل تتجلى بوضوح كنماذج حديثة تعيد مفاهيم المعرفة والهوية بطريقة جديدة، إذ لا يبنى هذا النظام بوصفه استيراداً لنموذج خارجي أو إعادة نمذجة أفكار أخرى، إنما هو فلج مُتشعِب يروي الأصول بالعُرف والتاريخ، وهو نسيج داخلي يتشكل من التقاء التجربة بالمعنى، ومن تمازج التقاليد والهوية بالمنجز الحضاري الجديد، من تاريخ طويل تؤسس به الإمارات أفقاً فلسفياً بوعي سيادي يعيد إنتاج المفاهيم من مركز الفعل لا من موقع التبعية، لذلك فإن مفاهيم كالهوية والتنمية والابتكار والمواطنة لا تُطرح بشكل تقريري سطحي، بل كصيغ ديناميكية تواكب نهضة الإمارات وحضارتها، عبر أجيال مختلفة، بحيث يبقى الأساس القويم واضحاً، متشرباً بالأصالة والهوية العريقة.
لقد دأبت الإمارات على نيل قصب السبق في المجالات قاطبة، لكن الملفت هنا هو النسق الذهني الذي أنتجته خلال سنوات قليلة نسبياً، فالتعليم لم يُعد مجرّد وسيلة للترقية الفردية، بل أداة لصناعة الإنسان المفكّر، والإعلام انتقل من رتابة كونه مرآة للخبر والرأي، فأصبح منصة لبناء وعي جمعي، والسياسات الثقافية لم تُصمم كأنشطة جانبية، بل أصبحت قوى ناعمة فاعلة في المشروع الوطني.
وهذا يحيلنا لمفهوم مهم أثاره توماس كون في كتابه «بُنية الثورات العلمية»، عندما تحدث عن أن التغييرات الكبرى لا تأتي من تراكم المعلومات، بل من تحول زاوية الرؤية التي نفكر من خلالها، وهذا بدوره أثار سؤالاً مهماً وهو: لماذا ننجز.. وكيف نؤطر هذا الإنجاز فكرياً؟
وبينما يظهر النظام المعرفي كبنية لا مرئية ترسم ملامح التفكير، فإن «البرادايم الوطني» يمثل مرآة لنهج بناء المشاريع، وصياغة الطموحات، وتموضع الذات ضمن رؤية شاملة للمستقبل، هو صورة الوطن، والنموذج الريادي للفكر، والمشروع الثقافي الذي تعيد الدولة عبره هندسة المُمكن، ليس فقط عبر القرارات، بل عبر إنتاج صورة جديدة عن الذات، حاضنة معرفية تترجم طموحات الوطن، تُفكّك ثنائية الماضي والمستقبل إلى هوية أصيلة واحدة، ومثال على ذلك متحف اللوفر في أبوظبي الذي يعد مثالاً حياً، فهو ليس مجرد صرح فني، بل هو مشروع رمزي يجسّد التقاء الحضارات، ويعكس «برادايما» معرفياً إماراتياً يؤمن بأن الهوية ليست نقيضاً للعالمية، بل جسر لها، ففي فضائه تتجاور الحضارات وتُروى قصة الإنسانية من منظور يوازن بين الأصالة والانفتاح، مما يعيد تشكيل صورة الوطن كمركز ثقافي عالمي، ويجعل من الإمارات وسيطاً معرفياً بين الشرق والغرب.
فالبرادايم الوطني ليس مجرد مخطط عمل أو مفهوم فلسفي متشعب، بل هو مناخ معرفيّ تُمارَس فيه المُواطنة بوصفها مسؤولية فكرية، وعليه لا بد أن يُعول أكثر على دور التعليم، والإعلام، والسياسة والاقتصاد والثقافة والأدب كقوى ناعمة قادرة على إنتاج المعنى بشكل أشمل داخل الفعل التنموي، بطريقة إماراتية أصيلة.