بؤس التطرف والإرهاب

تنطلق اليوم الأربعاء في فرنسا أولى جلسات محاكمة المتهمين في هجمات باريس الإرهابية لعام 2015، وتثير هذه الهجمات ذكريات أليمة لدى الفرنسيين ولدى الضحايا بعد مرور نحو عشر سنوات عن وقوعها.

وبدءاً من اليوم الأربعاء، سيُحاكم 14 شخصاً يُشتبه في علاقتهم بالهجمات الإرهابية في باريس، إضافة إلى ستة آخرين حوكموا غيابياً.

ويتزامن انطلاق محاكمة المتهمين في تلك الهجمات الإرهابية مع عودة شبح الإرهاب في فرنسا، إذ حذّر المدعي العام الفرنسي لمكافحة الإرهاب أوليفييه كريستن، الاثنين الماضي، من أن التهديد الإرهابي في فرنسا «ما زال جدياً وحقيقياً».

وذلك بعد مرور عشر سنوات على الهجمات الإرهابية في العاصمة باريس يوم 13 نوفمبر 2015 والتي أسفرت عن مقتل 130 شخصاً في يوم واحد، وتعد هذه الهجمات الإرهابية الأعنف في فرنسا على الإطلاق.

وزادت الإعلانات المتواترة عن إحباط وإجهاض عمليات إرهابية محتملة من حدّة هذه المخاوف لدى الفرنسيين.

ويُذكر أنه وفي مساء 13 نوفمبر 2015، قَتل ثلاثة متطرفين 90 شخصاً في «مسرح باتاكلان» للحفلات الموسيقية في باريس، كما نفّذ متطرفان آخران عمليات إرهابية أخرى في ذات اليوم في أماكن مختلفة من باريس وضواحيها، وإلى جانب عدد الضحايا المرتفع، أصيب أكثر من 350 شخصاً بجروح في هذه الهجمات الإرهابية.

وتعيش فرنسا هذه الأيام حالة تأهب قصوى لمواجهة خطر الإرهاب على المستوى الوطني، وقامت الحكومة الفرنسية بتشديد الإجراءات الأمنية في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك المدارس ودور العبادة ومراكز التسوق والمعالم السياحية، وذلك تحسّباً لهجمات إرهابية محتملة ومختلفة الأساليب.

ويدور جدل كبير في فرنسا وأوروبا عموماً حول الأسباب الكامنة وراء تنامي الظاهرة الإرهابية، ويكاد يحصل الإجماع على ضرورة تفسير ظاهرة الإرهاب لا ينبغي أن يقتصر على العوامل الاجتماعية والاقتصادية التقليدية.

والتي يمكن أن تفسر الظاهرة جزئياً، لأن التدقيق في الأسباب العميقة للتطرف والإرهاب في أوروبا عموماً يحيلنا إلى عوامل دينية وثقافية وحضارية والرجوع الكبير لقضايا الهوية، وخصوصاً خلال العشريتين الماضيتين.

ويتبيّن تبعاً لذلك أن فرنسا وأوروبا كانتا، ولأسباب سياسية وثقافية وحضارية، من الأهداف ذات الأولوية بالنسبة للمتطرفين والحركات الإخوانية، وهو ما يفسر أن عملية اختراق المجتمعات الأوروبية في اتجاه تغييرها، كانت دوماً من السياسات الثابتة في الفكر والممارسة المتطرفة والإخوانية.

وقد أثارت هذه الاستراتيجية الإخوانية حفيظة وكوامن النزعات القومية الأوروبية، ما أدى إلى تنامي اليمين المتطرف في فرنسا وأوروبا عموماً.

ويبدو أن فشل التطرف الإخواني المتكرر في زرع كيانات خاصة داخل دول عدة، أدى إلى تشتيت الإرهابيين في مناطق عدة من العالم، وتمّ ذلك غالباً في إطار توافقات سياسية ودبلوماسية بما يشير ويوضح أن جغرافية الخطر تغيرت ولكن كابوس الإرهاب والتطرف لا يزال قائماً.

ولم تنجح في ما يبدو استراتيجيات الدول الغربية ودول المنشأ في محاصرة الظاهرة الإرهابية بسبب اختلاف التقييمات وتناقض المصالح، وعدم الجدية في محاصرة خطر التطرّف والإرهاب، إذ كثيراً ما تلجأ بعض هذه الدول إلى توظيف هذا التطرف لغايات سياسية مصلحية.

ويتضح بما لا يدع مجالاً للشك، أن الخارطة الإرهابية هي ورقة تتحكم فيها بدقة قوى غربية معينة وتستعمل من جهة، كأداة في الصراع المحموم بين القوى العظمى، ومن ناحية أخرى كضمانة لاستمرار وضع اليد على مقدّرات الشعوب والأمم الأخرى.

إن التطرف، والتطرف الإخواني تحديداً، لا تهمه جغرافية الأوطان قدر ما يركز على «قاعدة» انطلاق و«غزو» مهما كان موقعها في العالم، ولا يرى التطرف أي موانع في أن تكون هذه القاعدة في أيّ دولة، مهما كانت خلفيتها التاريخية والحضارية، إن كان ذلك في دولة آسيوية أو في إحدى الدول العربية أو حتى في أوروبا وأفريقيا.

ولعل ما يجري الآن في دولة مالي ومنطقة الصحراء الأفريقية يترجم بشكل واضح هذه الاستراتيجية الإرهابية والإخوانية.

إن معالجة ظاهرة الإرهاب تتطلب وعياً إنسانياً راقياً يتعالى على مصالح الدول الخاصة ويؤمن بحتمية إيجاد الحلول المشتركة لهذا الخطر الداهم، وهو أمر لن يستقيم دون تنمية عادلة ومستدامة لجميع الأمم والشعوب، ودون الإيمان العميق بقدر من الحرية والعدالة والديمقراطية يسمح بوضع أسس العيش المشترك ويقضي جذرياً على التطرف والإرهاب.