تحت عنوان «نحنُ بَشَر» كتب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، الدرس الخامس والعشرين من دروس كتابه الرائد «علمتني الحياة» أضاء فيه طبيعة التفكير الإنساني النابع من طبيعته البشرية التي لا يُمكن لها أن تكون معصومة من الخطأ والضعف، وميز ببصيرته الثاقبة وخبرته العميقة بين نوعين من البشر لا سيما من المشتغلين في العمل العام من كبار المسؤولين وكيف يكون موقفهم أمام أخطائهم التي هي جزء من طبيعتهم البشرية، ليحلق سموه عالياً وهو يتفحص هذه المعضلة المرتبطة بأخلاق الإنسان ووعيه بذاته ومدى تحمله للمسؤولية تجاه أعماله، مفرقاً بذكائه النافذ بين النجاح السريع والنضج الذي يتشكل عبر دورة الأيام والسنين ضمن مسيرة محفوفة بكثير من المواقف بين الفشل والنجاح.
يفتتح صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم هذا الدرس الثمين بقوله: «علمتني الحياة أن النجاح ليس سلسلة متصلة من الانتصارات، بل سلسلة من التجارب التي تقودك للنُضج في القيادة والحكمة في الحياة»، في هذه الكلمات المتوهجة بالخبرة والتواضع يقدم سموه مفهوماً جديداً للنجاح يختلف في جوهره ومضمونه ونتائجه عن المفهوم السائد بين الناس، فإذا كان مفهوم النجاح لدى الناس هو تواصل الانتصارات في جميع مجالات الحياة ومساراتها، فإن سموه يُعدِّلُ هذا الفهم الخاطئ ويُقدِّمُ فهماً أكثر عُمقاً ونُضجاً وصحة حين يجعل النجاح سلسلة من التجارب التي تؤدي في النهاية إلى نُضج الرؤية في القيادة وحكمة السُلوك في الحياة، وتأكيداً على هذا الفهم العميق لمفهوم النجاح يستشهد سموه بتجربته الطويلة في العمل العام عبر ستة عقود ليؤكد لنا أنها لم تكن محطات متتالية من الانتصارات والنجاحات والإنجازات لأن هذا بحسب قول سموه ليس منطقياً ولا واقعياً، لتكون هذه الشهادة المعززة بالواقع العملي هي خير دليل على أن النجاح ليس له تصور أحادي الجانب بل هو مفهوم مركب متعدد الزوايا يحتاج إلى الرؤية النافذة لسبر أغواره ومعرفة حقيقته، وقطف ثماره من خلال الوعي التام بنسبيَّته وارتباطه بطبيعة الإنسان وما يحيط به من الظروف.
وهذا الفهم لنسبية النجاح نابع من الفهم الصحيح لطبيعة الإنسان والذي عبّر عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بقوله: «نحن لسنا أنبياء معصومين، ولا ملائكة مقربين، نحن بشرٌ نصيب ونخطئ، نسقط وننهض، ننجح ونفشل، نفرح ونحزن، نضعف ونقوى، والعاقل هو الذي يتعلم من رحلته وتجاربه، والمتكبر هو الذي ينكر إخفاقاته ولا يتعلم منها» فبهذه الرؤية الصحيحة للطبيعة الإنسانية يتم النظر إلى النجاح، وأنه ليس مفهوماً حتمياً لكل عمل، بل هو مرتبطٌ أشد ارتباط بهذه الطبيعة النسبية للإنسان بين الفشل والنجاح، والخوف والشجاعة، والخطأ والصواب، والسقوط والنهوض، والقوة والضعف، فمن كانت هذه طبيعته فكيف يتسنى له أن تكون حياته كلها رحلة متواصلة من النجاحات والإنجازات!
عند هذه النقطة الفاصلة في الوعي الإنساني يتفحص صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم موقف المسؤول أمام واقعة الفشل والأخطاء ليميز بين نوعين منهم على النحو التالي حين يقول: «المسؤولون أمام أخطائهم نوعان: مَنْ يُشيع الخوف في مؤسسته لدفن الأخطاء والتستر عليها، ورفض الاعتراف بها والحديث عنها، ونوعٌ آخر يُشيع جواً من الثقة ويمتلك الشجاعة لمناقشة الإخفاقات مع فريق عمله، والدروس التي تعلموها لبناء نجاحات مستقبلية» فهذا التمييزُ الصائب الدقيق بين أنواع المسؤولين هو الضمانة لتصحيح مفهوم النجاح، وأنه ليس نتيجة حتمية وضرورة تلازمية بين العلة والمعلول، فيمكن للإنسان المفعم بالحس العميق بالمسؤولية والآخذ بجميع الأسباب أن يخفق في مشروع ما، لكن ذلك لا يعني نهاية الطريق بل هو حافزٌ لتفادي الأخطاء المستقبلية، ومع ذلك يحرصُ سموه على أن يظل المدى رحباً أمامَ الخطأ الإنساني غير المتعمد حين يقول: «يقال إن الحمقى هم من يكررون أخطاءهم، أما الأذكياء فإنهم يصنعون أخطاء جديدة» وواضحٌ من هذا القول المنقول مدى المساحة التي يمنحها سموه لصناعة النجاح الإنساني الصحيح.
إن الصدق مع النفس هو الذي يفتح باب الفهم الصحيح للنجاح، وهو الذي يمنح القائد المسؤول شجاعة الاعتراف والمراجعة والانطلاق الواثق من جديد، وهو ما عبر عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بقوله: «نحن بشر، القرارات لن تكون صائبة 100 % من الأوقات، والسياسات قد تحتاج إلى تعديلات، والمشاريع قد تتوقف لإعادة التقييم، الخطأ وارد، ولا بد أن نكون صادقين مع أنفسنا، وأن تكون لدينا الشجاعة للتعديل والتقييم وإعادة الانطلاق» وربما خطر في البال أن هذا الكلام ينطبق فقط على الأفراد العاملين ضمن مؤسسات الدولة أو القطاع الخاص، لكن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم يوسع المنظور حين يؤكد على أن هناك قادة دول ورؤساء بلدان لم يمتلكوا شجاعة الاعتراف بالأخطاء، ورفضوا مطالب أبناء بلدانهم وخاضوا حروباً طويلة دون جدوى من خلال مواجهة دامية مع شعوبهم، وسقط في حومة هذا الصراع ملايين الضحايا، وتراجعت بلادهم مئات السنين إلى الوراء بسبب إصرارهم على الخطأ وعدم امتلاكهم شجاعة الاعتراف، وها نحن نشاهد بعض الدول الكثيرة الموارد، الذكية الشعوب، صار مصيرها إلى الدمار والخراب بسبب روح التعنت لدى حكامها، وافتقارهم إلى الحكمة والنضج في إدارة شؤون البلاد.
وفي الجانب المقابل يشير صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم إلى بعض النماذج الإيجابية التي امتلك قادتها شجاعة الاعتراف، والإقرار بالأخطاء بعد توريط الشعوب في حروب دمرت مقدرات البلاد كألمانيا واليابان وكيف نهضتا من تحت ركام الخراب الذي أصابهما بسبب الحرب العالمية الثانية بسبب وجود قادة في تلك البلاد قرروا الانطلاق من ركام الحرب والخسارة لبناء معجزات تنموية قائمة على الثقة في النفس والمصارحة والصدق مع شعوبهم ومع أنفسهم، لتكون النتيجة هي هذا التفوق الهائل الذي استعاد به كلا البلدين موقعه الحضاري الصحيح ضمن المشهد الإنساني القائم على التنافس والإبداع.
في مواجهة حقائق الحياة كما هي في طبيعتها، يستلهم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم درساً عميقاً من دروس الحياة عبر عنه بقوله وهو على مشارف الختام لهذا الدرس الثمين حيث يقول: «علمتني الحياة أن تقَبُّل الخسارة حكمة ونضج، يمنح الإنسان الطاقة للانطلاق من جديد» ولعل هذه الكلمات هي أثمن ما في هذا الدرس البليغ من دروس صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الذي ما زال يلهمنا الدروس ويعلمنا كيف نعيش الحياة في معناها الصحيح دون مبالغة أو تزييف، وهو مقتضى الحكمة التي هي من أجَلّ النعم على الإنسان، وهو ما ختم به سموه هذا الدرس العميق من دروس الحياة حين ختمه بقوله تعالى: { ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً }.