تواجه الولايات المتحدة مخاضاً صعباً هذه الأيام، ما زالت الحكومة الأمريكية، حتى كتابة هذه المقالة، مغلقة بسبب الاستقطاب الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين داخل أروقة الكونغرس.
عدم اعتماد ميزانية للحكومة الفيدرالية، والذي أدى إلى الإغلاق، مرده الاختلاف الجوهري في الأولويات بين الحزبين.
الرئيس الأمريكي يريد أن يفرض ميزانية جديدة تلغي المساعدات الخارجية والتي ليس لها قواعد انتخابية تدافع عنها، ولكن جوهر الخلاف أن كثيراً من الجمهوريين يرون أن المساعدات الخارجية تذهب لتعزيز قيم لا تتوافق مع التوجه السياسي لإدارة الرئيس دونالد ترامب.
الإشكالية الأخرى في عدم تمرير الميزانية تتعلق بدعم الرعاية الصحية والتي أُقرت في عصر باراك أوباما. يعتبر الدعم المقدم للرعاية الصحية مسألة مهمة لقطاعات كثيرة في المجتمع الأمريكي. تذكر إحدى المريضات بأنها أجرت عملية مستعجلة وكانت فاتورة العلاج قد بلغت 85 ألف دولار.
يستفيد حوالي 24 مليون شخص من برنامج الرعاية الصحية، ويرى الديمقراطيون أنهم المدافعون عن حقوق المحتاجين والذين لا يستطيعون شراء تأمين صحي من القطاع الخاص دون دعم حكومي.
وتشير الاستطلاعات أن ثلاثة أرباع الأمريكيين من كل الطيف السياسي الأمريكي يؤيدون الدعم الصحي المقدم.ولكن ترامب والجمهوريين من خلفه لديهم هوس إلغاء الدعم الصحي، والذي يعرف شعبياً برعاية أوباما.
والجدير بالذكر فإن محاولة إلغاء برنامج الرعاية الصحية كلف الجمهوريين خسارة مجلس النواب في 2018 في ولاية ترامب الأولى.
وقد نصح أوباما خلَفه بألّا يلغي البرنامج ولكن يعيد تسميته رعاية ترامب الصحية ليحسب له إنجازاً سياسياً، ولكن الجمهوريين معادون مبدئياً لدولة الرفاه؛ وإيمانهم لا يتزحزح في قدرة السوق لتحقيق الأفضل.
وتتعدى قضية الإغلاق الحكومي مسألة الرعاية الصحية، فقد أدى الإغلاق إلى تجميد 900 ألف موظف حكومي، كما أدى الإغلاق إلى وضع مليوني موظف للعمل دون أجور، كما أن الكثير من المعوزين سيخسرون الدعم الغذائي، والذي يتلقونه كقسائم لشراء الأغذية التي تحتاجها العوائل.
وقد أمر قاضيان فيدراليان إدارة ترامب بتوفير هذه القسائم من الأموال الاحتياطية بسبب نفاد الميزانية الحكومية.
آثار هذا العجز، للتوصل إلى مساومات وحلول وسطى بين الحزبين الرئيسين، مكلفة اقتصادياً وعواقبها السياسية وخيمة.
الاختلافات في الشارع السياسي الأمريكي كانت دائماً مستفحلة، والتباينات كانت سمة سياسية منذ قامت الولايات المتحدة، ولكن في لحظات تاريخية لم تستطع الولايات المتحدة حسم اختلافاتها والتي تحولت إلى خلاف مصيري.
في القرن التاسع عشر حصل الخلاف على العبودية، وكان كثير من الشخصيات والحركات تناهض هذه المؤسسة البغيضة، استرقاق الإنسان لأخيه الإنسان، وإن اختلف لون جلده أو هويته، أصبح غير مقبول، ولكن كان البعض يرى في هذه المؤسسة مصلحة اقتصادية كبيرة في الجنوب حيث عم الرق والذي استُخدم كعمالة في زراعة القطن.
كانت هذه الممارسة عصب الحياة الاقتصادية، وبالنسبة للشمال كانت محاربة العبودية فرصة لتغيير النظام في الجنوب وكسر الأسس المتينة لاقتصاده.
ونشبت الحرب الأهلية في الولايات المتحدة من عام 1861 إلى 1865. التقديرات تقول إن حوالي 650 إلى 750 ألف شخص لقوا حتفهم في هذه الحرب، وكانت النتيجة أن هزمت الولايات الجنوبية وتحرر ما يزيد على أربعة ملايين شخص من ربقة العبودية.
واستطاعت الولايات المتحدة بعدها أن تستعيد عافيتها، وأن تعيد بناء مؤسساتها وأن تستمر. والأغرب أن الدستور الأمريكي ظل صامداً لأكثر من قرنين من الزمن في وجه كل العواصف السياسية والأزمات في حين تغير الدستور الفرنسي خمس مرات في خمس جمهوريات، وهي مرشحة لتغيرات إذا ما استمر الاحتقان السياسي.
وألمانيا كذلك شهدت سقوط الملكية وجمهورية فايمار (1919 - 1939)، وهناك أمثلة أخرى في أوروبا.السبب يعود إلى أن المؤسسات الأمريكية كانت متماسكة مرنة وتتكيف مع المستجدات.
اليوم تعاني المؤسسات الرئيسة في الولايات المتحدة من تسييس فظيع. الكونغرس منقسم بشكل عميق والمحكمة العليا غالبيتها في توجه مساند للرئيس، حتى الرعاية الصحية تسيست. حتى الرأي الصحي بدا يُبنى على أسس أيديولوجية وسياسية وليست علمية.
الإشكالية أن ليس هناك مخرج، فقد اتسع الفتق على الراتق، كما يقول المثل العربي.