فقه المنطقة الرمادية

تبدو المهنة الإعلامية اليوم في أكثر مراحلها التباساً، بعدما تداخلت الحدود بين الخبر والرأي، وبين الحقيقة وصورتها، حيث لم يعد الخطر في غياب المعلومة، بل في وفرتها وتناقضها وتحوّلها إلى سلعة لا معنى لها خارج سرعة تداولها، وأصبح الخبر يعيش دورة حياة قصيرة، يلمع ثم يختفي، بينما تبقى آثاره في الوعي أطول بكثير من قيمته الفعلية، وهنا تحديداً، تنشأ المنطقة الرمادية، التي يتراجع فيها المعنى أمام الزخم، ويُختبر فيها ضمير المهنة قبل أدواتها.

على مدى سنوات لم يكن التحول في الإعلام مجرد انتقال من الورقي إلى الرقمي، بل من الخبر كمسؤولية، إلى الخبر كاستثمار، وهو تحول يمسّ جوهر العلاقة بين الإعلامي والجمهور، ففي نظريات الإعلام الكلاسيكية، كان الصحافي يُنظر إليه بوصفه «حارس البوابة»، يختار ما يدخل المجال العام وما يُستبعد منه، وفق معايير المصلحة العامة والمصداقية، أما اليوم، فقد ألغت المنصات الرقمية تلك البوابة تماماً، وسمحت لكل صوت بالعبور، من دون تحكيم مهني أو وعي نقدي..!

في هذا المشهد، يتجلى الإشكال الحقيقي بين الصحافي والتقنية، وأمام هذا التحول، تبرز الحاجة إلى فقه جديد للإعلام، فقه يتجاوز نصوص القوانين إلى فهم العلاقة بين المعلومة والوعي، وبين الحرية والمسؤولية، وبين الانتشار والتأثير، فالقانون يُنظِم السلوك، لكنه لا يوجّه النية، أما الأخلاق المهنية، فهي وعيٌ يتكوّن داخل التجربة، يُعلّم الصحافي متى يتكلم ومتى يصمت، ومتى يكون الامتناع عن النشر أبلغ من النشر ذاته.

ولأن الواقع الإعلامي في الإمارات يتحرك في فضاء متسارع ومتنوع، فقد أدركت الدولة مبكراً، أن التوازن بين الحرية والتنظيم، هو شرط البقاء المهني، فمن خلال تحديث التشريعات الإعلامية وتطوير البيئة الرقمية، تسعى الدولة إلى توطين أخلاقيات الممارسة، وتوفير بيئة تُحفز الإبداع، من دون أن تُضعف المسؤولية، فالتنظيم هنا ليس تقييداً للكلمة، بل حماية لها من الانزلاق إلى خطاب الفوضى، إنه تعبير عن وعي مؤسسي بأن الإعلام شريك في التنمية، وأن رسالته لا تكتمل إلا حين يلتزم بالمعرفة، كقيمة، لا كأداة تأثير لحظي.

والإعلام الناضج لا يُقاس بقدر إنتاجه من الأخبار أو بتفاعل متابعيه، بل بقدرته على إنتاج معرفة موثوقة، وحين يخطئ الخبر، يمكن تصحيحه، أما حين يختل وعي المتلقي، فالإصلاح أصعب بكثير، ولهذا، فإن «فقه المنطقة الرمادية» ليس سعياً إلى يقين مطلق، بل إلى منهج في الفهم، يحفظ للإعلام اتزانه في مواجهة الغموض، فهي مساحة يضبطها الضمير، ويهذبها الوعي، حيث يقوم هذا الفقه على إدراك أن الحقيقة في عصر الاتصال لم تعد ثابتة في مصدرها، بل متحركة في تأويلها، كما أنه فهمٌ ديناميكي للواقع الإعلامي، يعترف بأن المعلومة لا تنفصل عن السياق الذي وُلدت فيه، ولا عن الغاية التي تُستخدم من أجلها.

وخصائص هذا الفقه -كما أراها - تقوم على التوازن بين حرية التعبير، وحق المجتمع في الحصول على أخبار بمصداقية عالية، بين السبق في النشر، والتثبت من المعلومة، وبين التقنية والإنسان، فهو لا يُقصي التكنولوجيا، لكنه يعيد ترتيب علاقتنا بها، أما محدداته، فهي الوعي، بمعنى إدراك أثر الكلمة قبل إطلاقها، وقراءة الحدث بطريقة موضوعية عادلة، والمسؤولية باعتبار أن كل معلومة تحمل تبعاتها في الرأي العام، إنه فقهٌ يعلّم الإعلامي كيف يتصرف حين تختلط الحقيقة بالانفعال، وكيف يختار الموقف الأخلاقي، حين لا تكفي القواعد المهنية وحدها.

وفي النهاية، لا يحتاج الإعلامي إلى نبوءة ليدرك صواب فعله، بل إلى وعي مهني يحكمه ميزان الضمير، فالكلمة تقاس بما تُحدثه من فهم صادق في وعي الناس، وحين يبلغ الإعلام هذا المستوى من البصيرة، يتحول من وسيط لنقل الأحداث، إلى قوة معرفية تُعيد ترتيب علاقتنا بالحقيقة، وذلك هو جوهر فقه المنطقة الرمادية، أي أن يتعامل الإعلام مع الغموض بوعي، ومع الحرية بمسؤولية، ومع المعلومة كأمانة، قبل أن تكون فرصة، والإعلام الذي يدرك حدوده، هو وحده القادر على أن يحفظ الحقيقة من التشوه، ويُبقي للوعي صفاءه واتزانه.