«علّمتني الحياة»، صحح فيه مفهوم المسؤولية، وفرّق فيه على نحو دقيق بين المسؤولية والمنصب، وأطاح بالمفهوم السطحي السائد للمسؤولية، ورسّخ مفهوماً عميقاً للمسؤولية خلاصته: أن المسؤولية قوة عظمى، لا يحملها إلا الكبار، وربط على نحو بديع بين ضخامة المسؤولية، وبين تفرد الإنسان بحملها، حين أشفقت من حملها السموات والأرض.
فالدعوى هي الزّعم بأنّ فلاناً مسؤول كبير، والإبطال هو نفي هذه المرتبة عنه، والتعليل أن المسؤولية شجاعة وقيادة وأمانة، وهذه الثلاث صفات، ليست من الصفات المتاحة التي يستطيع تحصيلها والتخلق بها كل من اعتلى منصباً في هذه الحياة.
فالمناصب قد تتاح لغير مستحقها، لكن المسؤولية سلوك متميز، نابع من ثقافة وخبرة ومناقب تنتقل بالمسؤول من ثقافة المنصب إلى ثقافة القائد، وهو ما يحرص صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد على تجذيره، وجعله نموذجاً يحتذى في سياق المسيرة التنموية الحثيثة للوطن والإنسان.
ولكي تزداد الصورة وضوحاً، ينفي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، شرف المسؤولية عن كل صاحب منصب لا يتحمل نتائج قراراته، بل يتهرب من ذلك، وربما ألقى بالمسؤولية على غيره ممن يعمل تحت يده، وهذا ليس من خُلُق المسؤولية في شيء، فإذا أضيف إلى ذلك الخوف من التغيير، وعدم القدرة على اتخاذ القرار.
فلن يبقى من حقيقة المسؤوليّة إلا شكلها الخارجي، الذي يتجلى في شكل منصب فارغ من القائد الحقيقي، وهو آفة الإدارة في جميع البلاد المحرومة من التقدم والإبداع، فالمسؤولية في جوهرها العميق، وشكلها الصحيح هي أعظم أشكال التحديات التي تكشف عن المعنى الحقيقي للقائد المسؤول، وهو ما سيوضحه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، حين يقول: «يخلط البعض بين المنصب والمسؤولية، وأقول:
ليس كل صاحب منصب مسؤولاً، المسؤول الحقيقي، هو القائد الذي يتشرف المنصب به»، ففي هذا الجزء من كلام صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، تصحيح للمعنى الحقيقي للمسؤولية، وأنها لا تعني المنصب بأي حال من الأحوال، ويصحح صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هذا الخلط الشائع بينهما، والدال على ضعف البصيرة الإدارية، وتزداد الصورة وضوحاً وتوضيحاً، حين يجزم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، بأن ليس كل صاحب منصب مسؤولاً.
وفي هذا الكلام الرصين، تأكيد على عمق التلازم بين القيادة والحسّ العميق بالمسؤوليّة، فاعتلاء المنصب لا يعني مطلقاً أن صاحبه قادر على حمل المسؤولية، بل هذه القدرة لا تتكشف إلا من خلال العمل، فمن كان من أهل المسؤولية، فهو الذي يستحق هذا المنصب، والمنصب يتشرف بوصول هذا النموذج النادر إليه، فهو القائد الحقيقي الذي ينهض بأعباء المسؤوليات، ومن لم يكن كذلك، فهو عبء على الدولة والشعب.
ولن يرفع المنصب من قدره شيئاً، إذا لم يكن من أهل الكفاءة والشجاعة القيادية، لأن القيادة، بحسب كلام صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد «هي القدرة على تحمّل المسؤوليّة، والقائدُ الحقيقيُّ هو من يتحمّل المسؤوليّة، حتى لو تهرّب منها الناس».
فصاحب السموّ لا ينظر إلى الشكل الخارجي للمناصب، بل يتفحّصها إلى أعمق نقطة، ليربط بينها وبين الحسّ العميق بالمسؤوليّة، وعدم التهرّب منها، حتى لو لم يكن له نصيرٌ من النّاس، لأنّ تلك اللحظة لحظة حاسمة، يتمايز بها الناس في موضوع القائد الحقيقي، والقائد الزائف، الذي يختبئ خلف المنصب، وتبقى حقيقته غير معروفة حتى تحصل التحدّيات، وتبرز الحاجة إلى اتخاذ القرارات الدالّة على الشجاعة والثقة بالنفس، ومواجهة الشدائد والتحدّيات.
ففي هذه الكلمات تنمية للحس الأخلاقي، والضمير المستيقظ داخل العمل، وأن النزاهة الأخلاقية، هي التي تدفع القائد الحقيقي إلى العمل، حتى لو لم يكن ذلك بمرأى من النّاس ومسمع، لأنّ هذه اللحظة الأخلاقيّة، هي صمام الأمان الّذي يضمن أنّنا أمام قائدٍ حقيقيٍّ، يستشعر الواجب في أبعاده الأخلاقية، ولا ينتظر من الناس جزاء ولا شكوراً.
فقد اعتاد الناس على أن الإنسان مسؤول عما يقع ضمن دائرة مسؤولياته، ولكن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، يوسع دائرة المسؤولية، ويجعل كل العمل ضمن مسؤوليّات القائد، حتى لو لم يكن العمل منوطاً به بشكلٍ مباشر، فالقائد في نظر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، كلّ لا يتجزأ.
وهذا المفهوم في تحمّل المسؤوليّة، ينطبق أيضاً على فكرة النجاح في العمل، وأن القائد الحقيقيّ، هو من يكون مسؤولاً عن نجاح غيره، تماماً كما يكون مسؤولاً عن نجاح نفسه. وتأسيساً على كل ما سبق من كلام صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، حول مفهوم القيادة والمسؤولية، يسطر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الدرس الذي تعلمه من الحياة بخصوص هذه القضيّة، حين يقول:
«علّمتني الحياة أن أولى خطوات النضج، عندما يبدأ الإنسان بتحمّل مسؤولياته، حتى يصبح قائداً حقيقيّاً، يستطيع حمل مسؤولية أسرته، وهذه مسؤولية كبرى، أو حمل مسؤولية مجتمعه ووطنه وأمّته».
لتكون هذه الكلمات ربطاً واعياً وعميقاً بين النُّضج، وبين تحمّل المسؤوليّة بكلّ أشكالها، ابتداءً من دائرة الأسرة الصّغيرة، وانتهاءً بدائرة المسؤوليّة عن الأمة، لأنّ الوصول إلى الذروة العليا من الإحساس بالمسؤوليّة، يحتاج إلى تدرّج وتدريب، كي يصل إليه الإنسان، وهو في قمة النضج، لأن الإنسان سيكتشف في تلك اللحظة، أنّه قد تنطّح لأعظم مسؤوليّة، وهي «الأمانة الحقيقيّة التي أبت السماوات والأرض أن تحملها».