عززت الاشتباكات الحدودية بين قوات الحكومة الأفغانية وقوات الجيش الباكستاني مؤخراً نظرية أن الدول والجماعات التي تنخرط في القتال لسنوات طويلة يصعب عليها انتهاج طريق السلام، بمعنى أن الحرب تصبح جزءاً من حياتها وطقوسها وتقاليدها اليومية، وبالتالي تسعى إلى خلق عدو تتقاتل معه، فإن لم تجد تتقاتل في ما بينها على المواقع والغنائم، وهكذا.
ظل الأفغان يقاتلون ويتقاتلون لعقود طويلة دون الركون إلى السلام ــ باستثناء فترة قصيرة نسبياً زمن الملك الراحل محمد ظاهر شاه ــ فمن حرب التحرير ضد النفوذ البريطاني في الأربعينيات، وحرب ممر خيبر مع باكستان في الستينيات، إلى حرب الجهاد ضد الغزاة السوفييت في السبعينيات، وحرب الفصائل الجهادية بين بعضها البعض في الثمانينيات، وحروب طالبان ضد العالم بأسره في التسعينيات، وصولاً إلى حرب تحرير البلاد من القوات الأمريكية والغربية في الألفية الجديدة، لم تكن هناك فترة راحة، يضع فيها المقاتلون السلاح جانباً لممارسة حياتهم الطبيعية السلمية كبقية الشعوب.
لا يعني هذا الكلام أن ما حدث مؤخراً من اشتباكات بين باكستان وأفغانستان نجم عنها مقتل العشرات وإصابة المئات تقع مسؤوليتها بالكامل على القوات الأفغانية، وإعفاء باكستان من أي مسؤولية. فالبلدان الجاران اللذان كانا يوماً ما حليفين وثيقين، بينهما مشاكل حدودية وملفات أمنية لم تحسم، كما أن الولاءات القبلية والأيديولوجية على جانبي الحدود تلقي بظلالها على تلك المشاكل والملفات فتسخنها من وقت إلى آخر، خالقة بؤرة للتوتر الدائم.
ويبقى العامل الهندي حاضراً على الدوام، بسبب التنافس المزمن بين إسلام آباد ونيودلهي على النفوذ في المنطقة، وفي أفغانستان تحديداً. إذ ترى الأولى أن أفغانستان تقع ضمن مناطق نفوذها الطبيعية بحكم الجغرافيا السياسية والتاريخ والمعتقد الواحد والعلاقات القبيلية المتداخلة، وغيرها من العوامل، بينما ترى الثانية أن من حقها حماية أفغانستان من تدخلات عدوتها الباكستانية، وتأثيرات الأخيرة الأيديولوجية المناهضة لها، مدفوعة بدوافع اقتصادية واستراتيجية.
ولعل هذا يجيب عن سؤال: «لماذا اندلعت الحرب فجأة وفي هذا التوقيت بالذات بين إسلام آباد وكابول». طبقاً للادعاءات الباكستانية فإن اندلاع القتال فجأة على طول الحدود المشتركة بين قوات الجانبين، جاء بعيد تقارب أفغاني ــ هندي نادر، في إشارة إلى زيارة قام بها وزير الخارجية الأفغاني إلى نيودلهي للمرة الأولى منذ وصول طالبان إلى الحكم في كابول سنة 2021.
وبعبارة أخرى تتهم إسلام آباد كابول بأنها اتفقت مع نيودلهي على أن تصبح مخلباً للأخيرة ضدها وضد مصالحها في المنطقة من خلال القيام بأعمال لزعزعة الاستقرار عبر الحدود، وذلك مقابل انفتاح الهند على الحكومة الأفغانية والاعتراف بها رسمياً وإغداق المساعدات عليها. و
هذه الادعاءات تنفيها كابول جملة وتفصيلاً وتصفها باتهامات تطلقها إسلام آباد لتبرير الاعتداء عليها وإخضاعها لسياساتها الإقليمية بالقوة، مستغلة أوضاع أفغانستان الاقتصادية الصعبة، وعزلتها الدولية.
أعلن الأسبوع الماضي في الدوحة أن الجانبين اتفقا بوساطة سعودية ــ قطرية على وقف إطلاق النار والسعي لحل كل المشاكل البينية سلماً. غير أن التجارب السابقة في مثل هذه الحالات، ولا سيما في هذه المنطقة، تشير إلى أن أي اتفاقية سلام لن تثمر إلا سلاماً هشاً بسبب الكم الهائل من التعقيدات الجيوسياسية والأمنية والأيديولوجية.
ويرى بعض المراقبين في ما حدث بداية مرحلة جديدة وخطيرة في جنوبي آسيا، تحاول فيها أفغانستان ترسيخ شرعيتها الداخلية والدولية بالقوة، بعد أن بخل عليها المجتمع الدولي بذلك سلماً، ناهيك عن محاولة اختبار عزم جارتها الباكستانية وتأكيد استقلالية قرارها الخارجي، ومحو الصورة المكونة عنها في دوائر القرار الباكستانية أنها جار يمكن السيطرة عليه وتوجيه سياساته وفقاً للمصلحة الباكستانية العليا.
وأخيراً، يجب ألا نغفل الموقف الصيني مما يحدث في هذه المنطقة. فبكين المهتمة بتحقيق طموحاتها من خلال مبادرة الحزام والطريق، ولا سيما من خلال الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، يزعجها أن يحدث توتر في منطقة استثمرت فيها بكثافة، وعليه فقد تتدخل بطريقة تعزز أمن واستقرار وقوة حليفتها الباكستانية الوثيقة من جهة، وتدفع أفغانستان إلى التهدئة مقابل مساعدات اقتصادية معتبرة من جهة أخرى.