خضعت أثيوبيا وأريتريا للاستعمار الإيطالي في أعقاب الحرب الإيطالية الأثيوبية الثانية سنة 1935، زمن الديكتاتور «بينيتو موسوليني»، لكنها تحررت من قبضة الإيطاليين ووقعت في قبضة الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية. وكان من تداعيات ذلك أن أسر الحلفاء أعداداً كبيرة من الإيطاليين المقيمين في أثيوبيا كجنود أو مستوطنين أو مسؤولين أو إداريين. هؤلاء الذين تقطعت بهم السبل بعد الحرب بسبب الصراعات الدائرة في المنطقة وتحديات ما بعد الحرب، لم يعانوا فقط من الأسر، وإنما واجهوا أيضاً ظروفاً قاسية وتجرعوا عذابات الغربة عن وطنهم الأم، وقاسوا الجوع والحرمان والمرض جراء نقص الغذاء والمياه والمؤن والرعاية الطبية في تلك الفترة الصعبة.
لم يتم التعامل مع أسرى الحرب الإيطاليين في أثيوبيا وأريتريا بشكل موحد، حيث استطاع العديد منهم استعادة حريتهم والعودة إلى ديارهم، بينما واجه آخرون كثر مصيراً مجهولاً. ولما كان الجل الأعظم من هؤلاء متعلمين ومؤهلين في مجالات البناء والنجارة والكهرباء والصيانة والحرف الأخرى، فقد قررت شركة أرامكو النفطية العاملة في شرق المملكة العربية السعودية، بناء على اقتراح من العقيد ستورمي ويذرز (الذي كان حينها ضابط إمدادات للبترول في الجيش الأمريكي في القاهرة، وبعدها تولى منصب رئيس قسم تطوير الصناعات المحلية في أرامكو)، الاستعانة بهم في مجالات تخصصهم المختلفة، بعد الحصول على إذن بذلك من الراحل الملك عبدالعزيز آل سعود، رحمة الله عليه، خصوصاً وأن ارامكو كانت تشكو آنذاك من نقص شديد في العمالة المدربة وهي في بدايات أعمال التحديث والتطوير لمنشآت النفط والحواضر الجديدة التي أقامتها لموظفيها الأمريكيين وعمالها السعوديين في كل من الظهران ورأس تنورة وبقيق وغيرها.
وعليه، قامت أرامكو بافتتاح مكتب لها في أسمرة بأريتريا بغرض توظيفهم ونقلهم إلى السعودية للعمل لديها بدلاً من تحمل تكاليف كبيرة لجلب عمالة ماهرة من دول أخرى وتدريبها، وتم لها ذلك بنجاح بمساعدة شركة تدعى مونيتي (MUNITY) كانت تعمل في السعودية منذ وقت مبكر، حيث سارع أسرى الحرب الإيطاليين إلى تسجيل أسمائهم لدى مكتب أرامكو المذكور في أسمره، تخلصاً من وضعهم البائس هناك، وخلاصاً من قيود الأسر، وأملاً في العودة إلى بلادهم، بدليل أن عددهم وصل إلى نحو 1800 إيطالي في منتصف أربعينات القرن الماضي، طبقاً لكشوفات الرواتب لدى أرامكو.
وفرت أرامكو لهؤلاء مجمعاً سكنياً منفصلاً عن مساكن موظفيها الأمريكيين وعمالها السعوديين في كل من الظهران ورأس تنورة، وحرصت على توفير كافة احتياجاتهم من المؤن والرعاية الطبية والتسهيلات الترفيهية، فسارت الأمور على النحو المرتجى لسنوات عدة، قدم خلالها الإيطاليون خدمات جليلة لأرامكو، منها مشاركتهم في بناء أول مصفاة لتكرير الخام في ميناء رأس تنورة سنة 1944، وتوليهم بناء منشآت سكنية وخدمية وترفيهية للشركة، مثل: منازل كبار الموظفين وصالة السينما الرئيسية ومطعم كبار الموظفين في الظهران، علاوة على تشييد مبنى القنصلية الأمريكية السابق في الظهران وصالة السينما القديمة بمطار الظهران لخدمة أعضاء بعثة التدريب العسكرية الأمريكية ومنسوبي المطار وضيوفهم. لكن الإيطاليين قاموا في مطلع الخمسينات بالمشاركة في الإضراب العام الذي قاده بعض عمال أرامكو من السعوديين والعرب للمطالبة بمساواتهم بالموظفين الأمريكان لجهة الرواتب والحوافز والظروف المعيشية وساعات العمل والإجازات، والسماح لهم بتشكيل نقابات تدافع عن حقوقهم، خصوصاً وأن جلهم كان مطلعاً على الأنشطة النقابية من زمن إقامته في أثيوبيا وأسمرة.
وبحلول أواخر الخمسينات لم يكن هناك في المنطقة الشرقية من السعودية سوى اثنين من هؤلاء الأسرى، أحدهم كان يدعى لويجي وكان قد انتقل للعمل كفني كهربائي لدى إدارة مطار الظهران، والآخر كان يدعى باتيتسا وقد سكن مدينة الخبر وتزوج من إحدى المواطنات بعد إشهار إسلامه. أما البقية فقد عاد بعضهم إلى بلاده، والبعض الآخر قضى نحبه وتم دفنه في مقبرة المسيحيين التي بنيت في غرب المجمع السكني بالظهران سنة 1945 بإذن من الوزير، حينذاك، عبدالله السليمان الحمدان، (تم إغلاق المقبرة وتحويلها إلى حديقة في عام 1980).
تطرق الكاتب السعودي الراحل إسحاق الشيخ يعقوب إليهم في مقال نشره في جريدة الأيام البحرينية (10/8/2017)، فأخبرنا، من واقع عمله معهم في رأس تنورة، أنهم كانوا ذا روح بسيطة ووجدان إنساني وقريبين من العمالة السعودية يشاركونهم في ممارسة رياضة القدم، ويطلعونهم على الحركة الثقافية الإيطالية وروادها، فعرفوا لأول مرة الكاتب والروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا مثلاً.
أما الأمريكي «توماس تشالرز بارقر»، الذي قدم إلى الظهران في الثلاثينات للعمل كمنقب عن النفط، ثم صار سادس وأشهر رئيس أمريكي لشركة أرامكو (من 1959 إلى 1969)، وأقربهم لموظفيها العرب، فقد أخبرنا في كتابة «تحت القبة الزرقاء» المترجم إلى العربية والصادر في سنة 2004، ما مفاده أن العمالة الإيطالية لئن كانت ماهرة وتجيد تنفيذ ما يوكل إليها من مهام، إلا أنها فوضوية في حياتها وتعشق اللهو كثيراً، ولأن كل أفرادها من العزاب، فإنهم لا يتركون فرصة تضيع دون التسلل إلى حفلات الموظفين الأمريكان لرؤية النساء والتقرب منهن.
ما سبق كان توطئة للحديث المفصل عن أحد أشهر الإيطاليين من الذين جلبتهم أرامكو للعمل لديها، قبل أن يصبح صاحب استوديو للتصوير ويعمل في التوثيق الفوتوغرافي لأعمال الشركة ومظاهر الحياة الاجتماعية في مدن شرق السعودية وغيرها. ولأنه أسدى بذلك خدمة توثيقية جليلة، إلى جانب مشاركته زملاءه الإيطاليين في أعمال البناء والتشييد للعديد من المنشآت النفطية وغير النفطية الأولى، ارتأينا أن نوثق سيرته وأدواره وجهوده من خلال هذه المادة، مستندين في ذلك إلى ما كتب عنه في الصحف والمطبوعات المختلفة، والأدبيات النفطية السعودية، لاسيما وأن الكثيرين داخل السعودية وخارجها لا يعرفون عنه شيئاً، بل لا يعرفون عن دور الأسرى الإيطاليين في أعمال أرامكو.
ولد «إيلو باتيجللي (ILO BATTIGELLI) أو إيلو القرصان» كما كان يسمي نفسه في مدينة «سان دانييلي ديل فريولي» الإيطالية في مقاطعة أوديني بإقليم فريولي فينيتسيا جوليا بتاريخ 27 يوليو 1922، لأب كان يعمل في صناعة الخزائن. وكان هو الابن الأكبر في عائلة مكونة من عشرة أبناء. ذهب إلى المدارس لإتقان حرفة كغيره من مجايليه، لكنه آثر أن يركز جهوده على تعلم مهنة التصوير الفوتوغرافي كعمه أرنستو الذي كان يمتلك استوديو للتصوير في مدينة جنوة. وعليه فقد هجر منزل العائلة في سن الثامنة عشرة للالتحاق بعمه في جنوة من أجل تعلم فنون التصوير، وبالفعل تمكن الرجل من مهارات التصوير وراح يطور نفسه في هذا المجال ليصبح مع الوقت فناناً متمرساً في التقاط الصور الفوتوغرافية.
قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية بسنة، أي في عام 1938، هاجر باتيجللي مع والده وإخوته إلى أريتريا، التي كانت وقتذاك مستعمرة إيطالية جديدة. ولأن والده كان اشتراكياً في إيطاليا الفاشية، فقد دفع ابنه إيلو إلى سوق العمل مبكراً، فعمل الأخير في العاصمة الأريترية (أسمره) كمصور صحفي ومصور تجاري لعدة سنوات قبل أن يقع في أسر قوات الحلفاء في عام 1941، كغيره من مجموعة المستوطنين الإيطاليين الذين أسرتهم القوات البريطانية في خضم الحرب العالمية الثانية، ليعيش في بؤس وفقر مدقع، ثم لينتهي به المطاف في شرق السعودية كعامل لدى شركة أرامكو على النحو الذي فصلناه آنفاً. وفي هذا السياق، رصد عنه قوله «لم نترك أريتريا نحو السعودية بدافع المغامرة، ولكن بسبب الجوع. لقد كنت أرغب أن أتناول أكثر من وجبة واحدة في اليوم».
في ميناء رأس تنورة السعودي، الذي اختاروه ليكون مقراً لإقامته وعمله، أسندت أرامكو إليه وظيفة تصوير وفهرسة تطور الأعمال في مشروع تشييد مصفاة تكرير البترول هناك، فأدى مهامه على أكمل وجه بسبب دقته الشديدة ومهارته الكبيرة في العمل، بدليل أنه ترقى سريعاً وصار مشرفاً عاماً على القسم الذي يعمل به. غير أن باتيجللي كان عاشقاً لمهنة التصوير فحسب بواسطة كاميرته الخاصة من نوع (ROLLEIFLEX 3.5)، خصوصاً وأن المناظر التي شاهدها في رأس تنورة للأماكن والأعمال والبشر كانت غريبة عليه ومحفزة له على تصويرها.
تمكن الشاب الطموح ذو الـ24 ربيعاً وقتذاك من إقناع رؤسائه بتفريغه للأعمال الفوتوغرافية التوثيقية والشخصية، التي لم يكن أحد في تلك الفترة يمارسها أو يعرف أسرارها غيره. وهكذا نجح في تأسيس أول استوديو تصوير على شاطئ رأس تنورة وفي مكان يبعد قليلاً عن الميناء وخزانات النفط، ورفع عليه علماً يتوسطه شعار القراصنة. ويقال إن الأسباب التي دعته إلى اختيار هكذا علم وتسمية نفسه بـ«إيلو القرصان» هو شخصيته الرومانسية وطبعه المغامر ورغبته في التميز عن الآخرين.
لقد كان باتيجللي إنساناً صادقاً ومجتهداً وقريباً من الناس ومحباً لمهنته، ويتجلى ذلك في سعيه لتعلم العربية كي يتواصل مع الناس من حوله، وقيامه بالتقاط الكثير من البورتريهات للناس والأطفال خارج الاستوديو، ناهيك عن علاقته الطيبة مع السعوديين الذين عاش في وسطهم لسنوات، بحسب قول ابنته «دانييلي باتيجللي روجر». ولعل من دلائل ذلك أنه استطاع التقرب من أمير رأس تنورة، آنذاك، تركي بن عبدالله العطيشان (1929 ــ 1985)، ونجح في كسب ثقته والحصول منه على موافقة ضمنية للتصوير بحرية في أرجاء المنطقة الشرقية. وحول ذلك، سجل عنه قوله: «التقيت بأناس من مختلف المشارب ومن مختلف المناطق، وتلقيت منهم الدعوات لأنهم كانوا يعلمون بأني صديق الأمير في المملكة والجزيرة العربية، حيث عشت ربيع أعمالي الفنية». ثم أضاف ما مفاده أن سمعته بين الناس والمسؤولين أتاحت له الوصول إلى قصر أمير المنطقة الشرقية، المرحوم سعود بن عبدالله بن جلوي، في الدمام، وقضاء ليلة فيه من أجل التصوير.
ويمكن القول إن أشهر صورة التقطها باتيجللي أثناء تواجده في السعودية هي صورة الراحل، الملك المؤسس، عبدالعزيز آل سعود، في فبراير 1947، خلال رحلة جلالته الأخيرة للمنطقة الشرقية لتفقد منشآت الزيت، حيث صعد صاحبنا إلى سطح أحد المباني والتقط من هناك صورة فنية أعجبت جلالته كثيراً. ولم تقتصر صور باتيجيللي على رأس تنورة والظهران، إنما التقط العديد من الصور للصحراء وسكانها وجزيرة تاروت وأطفالها، والخبر ومعالمها، بل انتقل أيضاً عبر البحر إلى البحرين وصور أسواقها التجارية وأعيانها.
في عام 1954، أي بعد عام من إضرابات العمال في أرامكو، ترك باتيجللي عمله مع أرامكو ليتفرغ لأعماله الفنية، فذهب إلى الولايات المتحدة، مرتدياً زي القرصان المميز، ليعرض فيها أعماله الفوتوغرافية المدهشة. وبينما هو منشغل بذلك جاءته برقية تطلب منه العودة على عجل إلى إيطاليا بسبب مرض والدته، ففعل. بعد ذلك، وتحديداً في عام 1957 انتقل إلى روديسيا لتصوير مشروع «سد كاريبا» في هراري، بتكليف من شركة مقاولات إيطالية، لكنه بقي هناك يدير محلاً خاصاً به للتصوير، ويلتقط صور البشر والحجر والطبيعة إلى أن تقاعد عن العمل في سنة 2000، وعاد إلى مسقط رأسه للاستقرار مع زوجته بولين، وظل كذلك إلى أن توفي على إثر نوبة قلبية في الثامن عشر من مارس سنة 2009.
ومما يجدر بنا الإشارة إليه أخيراً هو أن باتيجللي حصل على جائزة «فريولي فينيتسيا جوليا» للتصوير عن مجمل أعماله، وعرضت أعماله لمدة شهر كامل في مطبعة جامعة أكسفورد البريطانية العريقة بتنظيم من ابنته دانييلي. إلى ذلك قامت دارة الملك عبدالعزيز في الرياض، بالتعاون مع مركز أرشيف الصور الفوتوغرافية بإيطاليا، بتنظيم معرض لمدة أربعة أسابيع لأعمال باتيجللي في المتحف الوطني بمركز الملك عبدالعزيز التاريخي، وذلك في 12 ديسمبر 2009م.

