تحت عنوان «اقتصاد قوي وضمير سوي» جاء الدرس التاسع عشر من دروس كتاب «علمتني الحياة» لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وفيه يطرح صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم مفهوماً جديداً للاقتصاد، يجمع بين الوفرة المالية والوفرة الأخلاقية، بحيث تكون القيم والأخلاق والمبادئ ركناً أساسياً في تحقيق الازدهار والاستقرار، وهي الفكرة التي عبر عنها سموه في افتتاح هذا الدرس العميق بقوله: «علمتني الحياة أن المال والوفرة الاقتصادية وحدها لا تحقق السعادة والاستقرار في الدول والمجتمعات، بل يحققها الاقتصاد القوي والضمير السوي معاً».

تأسيساً على هذه الفكرة الأخلاقية السديدة يطرح صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم مجموعة من الأسئلة، يلقي من خلالها ضوءاً كاشفاً على طبيعة الخلل، الذي يكتنف المجتمع القوي اقتصادياً حين يكون يمشي على رِجل واحدة هي القوة المادية، وينحي جانباً المعطى الأخلاقي في معادلة الاقتصاد، حيث يقول سموه متسائلاً: «ما الخير في مجتمع لا يراعي الضعفاء ولا يرحم المحتاجين؟ ما السعادة في مجتمع يفتقد قيم العدالة والمساواة؟ كيف يعيش الإنسان مستقراً في مجتمع لا يوفر له الكرامة لشخصيته والاحترام لإنسانيته؟»، لتحمل هذه الأسئلة في طياتها نقداً جوهرياً ولاذعاً لكل المجتمعات التي تعتمد الوفرة المالية ركيزة وحيدة للاقتصاد، يتنعم بها مجموعة رأسمالية مسيطرة، وتنسى آلاف الجياع ممن يرزحون تحت خط الجوع والعوز والحاجة، وربما كانوا ممن ينامون في الشوارع في ليالي البرد القارسة كما نشاهده في بعض العواصم العالمية الكبرى، لتكون هذه الأسئلة من لدن سموه تذكيراً للإنسان بإنسانيته، التي تقتضي رحمة الضعفاء ومراعاة أحوال المساكين، وهو الخلق الذي جاءت به تعاليم جميع الأنبياء على نبينا، وعليهم الصلاة والسلام، تحقيقاً لقول الله تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم}، فينفي سموه وجود الخير في مجتمع لا يراعي أحوال هذه الفئة الضعيفة من خلق الله تعالى، كما يتساءل عن حقيقة وجود السعادة في مجتمع يفتقد قيم العدالة والمساواة، التي بها ينال الناس حقوقهم، ويأمنون على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، فإذا غابت هذه القيم عن المجتمع فكيف له أن يحقق أدنى أحوال السعادة؟ فإن أدنى حقوق الإنسان هو الشعور بالأمن والكفاية وهو ما امتن الله تعالى به على عباده بقوله: {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}.

هاتان الركيزتان لا يمكن للمجتمع أن يتذوق طعم السعادة في غيابهما، فإذا أضيف إلى ذلك ما ذكره سموه في التساؤل الثالث من انعدام الاستقرار في مجتمع لا يتوفر فيه الإحساس بالكرامة الشخصية والاحترام لجوهر الإنسانية اكتملت دائرة الخلل الاجتماعي، وأصبح الحديث عن السعادة وهماً من الأوهام، التي يصنعها الإنسان الحديث هروباً من مسؤولياته الحقيقية تجاه الفرد والمجتمع على حد سواء.

إن الخلل في التصور الصحيح للاقتصاد ناجم عن القصور في رؤية القيادة لمفهوم الاقتصاد، ولذلك يستلهم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم درساً عميقاً من هذا الواقع الاقتصادي، الذي لا يجد فيه الإنسان أمانه وكرامته، ويعزو ذلك إلى عدم وجود القائد القادر على الجمع بين ركيزتي الاقتصاد، من حيث الوفرة المالية والوفرة الأخلاقية، ويعبر عن ذلك بقوله: «علمتني الحياة أن القائد الحقيقي لأمته ليس فقط من يوفر لها الطعام والماء والمسكن والدواء، بل من يغرس فيها الرحمة، ويرسخ فيها العدالة، وينشر فيها روح التعاون والتسامح»، معدلاً بهذه الكلمات النظرة النمطية لمفهوم القيادة، ويطرح مفهوماً يجمع بين القيم المادية والقيم المعنوية للحياة المتكاملة، فإن كلام سموه لا يعني بأي حال من الأحوال أن يتخلى القائد عن واجباته المادية والمعيشية تجاه شعبه، لكنه يعني أن البعد المادي وحده غير كافٍ في تحقيق الاستقرار والأمان في المجتمع، وأنه لا بد من العمل الجاد في مسار القيم المعنوية، التي يتكامل من خلالها المجتمع بهذا الجمع الرائع بين جسد الاقتصاد وروح الأخلاق، وهو ما أعاد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم التأكيد عليه بقوله: «القائد الحقيقي هو الذي يطور منظومة القوانين، وفي نفس الوقت يشيّد منظومة القيم، القائد الحقيقي هو الذي يرسخ البنية التحتية المتطورة، ومعها يرسخ بنية القيم والمبادئ والأخلاق».

وفي هذا السياق من الإصرار على الجمع بين القيم المادية والقيم الأخلاقية يعبر سموه عن مشاعر القلق، التي تنتابه حين يرى ظاهرة التفاخر بتحقيق الكثير من المؤشرات التنموية والأرقام الاقتصادية والإنجازات العمرانية، مع نسيان الحديث عن مجتمع متراحم متعاضد، تبنيه أسر مستقلة متماسكة، وتكون ثمرته أفراداً من ذوي المعايير الأخلاقية والإنسانية العالية، ليؤكد من جديد أن المجتمعات المستقرة المتوازنة هي التي تحلق في سماء الاقتصاد والرقي الحضاري بهذين الجناحين المتلازمين، ويضرب مثلاً على ذلك رؤية دبي من خلال مبادئها الثمانية، التي اشتملت على رؤية اقتصادية عميقة، توازيها في الوقت نفسه رؤية أخلاقية، تنهض بالمجتمع من جوانبه الأخلاقية لكي تكون النهضة نهضة متكاملة على المستويين المادي والأخلاقي، لتكون النتيجة مجتمعاً يتميز بكثرة العمل، وينأى بنفسه عن الجدل، ويكون أفراده متواضعين عند النجاح، مثابرين عند التحديات، ناشرين للخير منفتحين على الجميع، وتنشأ فيه قيم تجعل للحياة طعماً جميلا من حيث احترام الوالدين، واحترام العامل والمعلم، واحترام كل الثقافات، مع تحمل كامل للمسؤولية الاجتماعية تجاه الأسرة باعتبارها اللبنة الأولى القوية في بناء الوطن، فضلاً عن المسؤولية المهنية تجاه العمل ونشر ثقافة الإتقان، والالتزام بمواعيد التسليم مع تعزيز الشعور بالمسؤولية الوطنية في احترام الأمن والنظام.

وتزداد نبرة التفاؤل في كلام صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وهو يستشرف الآفاق البعيدة للمجتمع، الذي يريد له أن يكون في دولة الإمارات بالاعتماد على الوفرتين: المالية والأخلاقية، فيسبغ الأوصاف الجميلة على المجتمع المنشود، فإذا هو - بحسب كلام سموه – «مجتمع مبتسم متفائل مقبل على الحياة، مجتمع متواضع وخاصة عند النجاح والوفرة المالية والتفوق، مجتمع متسامح متعايش، لا يشعر فيه أي أحد بالغربة، بل نحن وطنه وأهله وأسرته، مجتمع ناشر للخير باذل للمعروف، متنافس في العطاء من غير منة أو تفضل، الغني يعطي الفقير، والقادر يسند الضعيف، مجتمع محب للوطن، حريص على أمنه وأمانه واستقراره وسمعته»، لتكون هذه المنظومة الأخلاقية المتماسكة هي صمام الأمان للوطن والدولة والإنسان، لأن الأخلاق والقيم هي القوة الحقيقية التي تحافظ على المجتمعات من التراجع والانهيار، بل إن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم يرى أن الأخلاق هي التي تصنع الحضارة، وهو ما ختم به هذا الدرس العميق حين قال: «الأخلاق والقيم هي التي تصنع الحضارة، بل هي الحضارة».