لفتني معالي الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة، أمس، في قمة الإعلام العربي في دبي، عندما أطلق مصطلح «إعلام القاع» على تلك الوسائل التي لا يرضيها شيء، فإن عملت المؤسسات أم لم تعمل فإنها ستظل تهاجم كل شيء.
أرى أن «إعلام القاع» هو الشعبوي، الذي يخاطب غرائز الجمهور، ويغذي مشاعر السخط والغضب. وقد يكون «إعلام الإثارة» الذي يضخّم الأخبار ويضع مانشيتات صادمة لجذب الانتباه بغض النظر عن دقة المعلومة. كما أن «إعلام القاع» قد يكون مأجوراً أو مسيّساً يخدم أجندات خارجية، وهو مهتم بكل شيء ما عدا المهنية.
والقاع لغة هو منتهى عمق الشيء، ولذلك كان الخروج منه محفوفاً بالمشقة. في عالم الغوص، من يهبط إلى أعماق سحيقة، يتطلب منه اتزاناً دقيقاً، وصعوداً متدرجاً، وتحكماً صارماً بالتنفس ليعود سالماً إلى سطح البحر، فالنزول إلى القاع ليس كالصعود منه، فهناك جهد جهيد لا بد أن يبذل. أما الذين يطفون على السطح فلا يخشون أحداً لأنهم مكشوفون للجميع، ويمارسون ما يمليه عليهم ضميرهم المهني، وليس لديهم أجندات خفية.
ولذلك فإن الحكمة لا تقتضي توجيه الإعلام، بل دفع عدسات الكاميرات نحو أحداث مشرفة تستحق التغطية والاعتزاز، ليغدو الإعلام مرآة لما يدور في المجتمع. وما يزيد الطين بلة أن الخوارزميات الرقمية تروج للمادة الإعلامية الأكثر إثارة لا الأكثر دقة ومهنية، وفي كثير من الأحيان تدر عليها أموالاً طائلة. مثل تلك المؤسسة التي تقدم مادة هابطة قيل لي إنها تحقق من موقع «يوتيوب» وحده مئات الألوف من الدولارات وبشكل مستمر.
في فضاء الإعلام، لا يملك أحد منع أحد من النزول إلى الحضيض «القاع»، لكننا نملك حق اختيار المنصة التي تحترم عقولنا عبر تقديم مادة مهنية وموضوعية. ومن المهم أن نتفهم أن في الإعلام من هم في القمة ومن هم في القاع. والعاملون في إعلام القاع يفتقرون إلى الخلفية المهنية، ويعتمدون على لغة عاطفية، يتخذون التهكم والسخرية أسلوباً مستمراً في تحقيق مآربهم. الأسوأ أنهم يتعاملون مع المعلومة على أنها سلاح وليس باعتبارها وسيلة لتنوير الرأي العام. ومنهم من يلهثون وراء تحقيق «الترند» بأي ثمن!
في إعلام القمة، يتعلم المرء أن الكلمة تعني حرية ومسؤولية، وفيه يتعلم من المخضرمين، الذين يختصرون عليه وعورة طريق مشواره المهني بجلسات تنويرية مستمرة. وهناك إعلام يهوي من القمة إلى القاع عندما يفقد صوابه وينحاز إلى توجه ضد آخر، أو يجيش نفسه للدفاع عن فئة ضد أخرى أو بلد ضد آخر. الإعلام الحقيقي بعيد عن كل هذه المعمعة، هو أكثر هدوءاً واتزاناً وتألقاً وإبداعاً، وإذا تناول قضية قدم نقداً بناءً ومقنعاً، ويمكنه إذا توافرت الموارد المالية والرغبة أن يساير التطور التكنولوجي ليستمر في رحلة العطاء وتخريج أجيال من الإعلاميين الذين يحتذى بهم.
«الإعلام الرصين» هو الذي يحترم المتلقي، وهو ما يجعلنا نحترمه. أما «إعلام القاع» فهو صناعة التشويه والتركيز على السلبيات والإثارة والتحريض. وكما قال معالي الدكتور قرقاش لا بد أن نترفّع عنه، ولا نسعى لكسبه؛ لأنه لا يملك إلا التشويش والصخب.