«الأخ الأكبر يراقبك»، كانت هذه الجملة كفيلة بإعلان انهيار الخصوصية في عالم تحكمه «الحقيقة الموازية» والتحكم المطلق في الذاكرة، ففي الرواية الشهيرة 1984، التي كتبت في القرن العشرين، رسم جورج أورويل دستوبيا مجتمعية قائمة على تدمير العلاقات الإنسانية الطبيعية وتهيئة ظروف للعيش تحكمها الرقابة الصارمة وتقييد الحريات الفردية، إلا أن هذه الرقابة لم تكن مقترنة بكاميرات وتقارير مفصلة فحسب، بل امتدت لتصل إلى الذاكرة واللغة والقدرة على التفكير أيضاً، حيث كانت الحقيقة تصاغ في دهاليز السلطة القمعية، والماضي تعاد صياغته ليخدم الحاضر الذي تتحكم به فئة ضيقة، أما الفرد فلم يكن أكثر من رقم في منظومة ضخمة لا تعترف بكيانه، وهذا المنظور يحيلنا لأسئلة محورية، هي: «هل الرقابة شر مطلق؟»، وهل يمكن لمفهوم الأخ الأكبر أن يتحول من أداة قمع إلى آلية تنموية؟، وما دور المؤسسات الوطنية في تفعيل فلسفة تطبيقية جديدة لهذا المفهوم؟
وبالعودة إلى المشهد اليوم، لا مناص من فكرة الرقابة الإدارية كضرورة لا غنى عنها في أي مؤسسة وطنية تسعى إلى تحقيق الكفاءة وحوكمة الأداء، إنها الأداة القويمة لتنفيذ الخطط واحترام القوانين ومعالجة التحديات، لكن حين تتحول الرقابة إلى رصد دائم، وكأن الموظف متهم حتى يثبت العكس، فإن أثرها يصبح عكسياً، ويهدد بيئة العمل الصحية، وفي سياق المؤسسات الوطنية، تطرح هذه الأسئلة نفسها بإلحاح، خصوصاً في زمن تتسارع فيه أدوات الإدارة الحديثة وتزداد الحاجة للشفافية والمساءلة، يمكن فلسفياً إعادة تأويل «الأخ الأكبر» كرمز لـ«المرآة الداخلية»، تلك الرقابة الذاتية التي تنبع من حس وطني وأخلاقي لا من خوف خارجي، فبدل أن يكون الرقيب سلطة تفرض الانضباط، يمكن أن يكون ضميراً مؤسسياً يحفز الكفاءة ويعزز الثقة العامة، فاستدامة الرؤى التنموية في المؤسسات الوطنية تستند إلى أنظمة رقابة شفافة، تعزز ثقافة المحاسبة لا الخوف، وتدفع الموظف إلى الالتزام لا لرهبة من المساءلة، بل لإيمان بدوره في خدمة الصالح العام، وهنا يتحول «الأخ الأكبر» من خصم للحرية إلى شريك في تحقيق جودة الأداء والارتقاء المهني، وتصبح الرقابة فلسفة بناء لا آلية هدم.
ولذا فإن الفلسفة الجديدة التي نحتاج إليها داخل المؤسسات الوطنية هي فلسفة تبدأ من الإنسان لا من النظام، فحين يبنى الوعي المؤسسي على الثقة يصبح الفرد هو من يمسك المرآة، وهو من يغير بوعيه مفهوم الرقابة إلى رمز للبصيرة، حتى تصبح الضمير الجمعي للمؤسسة لا المتربص بها، وتتحول لصوت داخلي يدعو إلى الالتزام، وثقافة داخلية تنمو مع الفرد.
وفي قلب هذه الفلسفة، تقف الشفافية والتغذية الراجعة كوسيط أخلاقي وإنساني يحوّل عملية المراقبة من صمت رتيب إلى حوار بنّاء، ومن غموض مريب إلى وضوح مشترك، فالرقابة التي تشارك نتائجها وتفسح للموظف مجالاً للفهم والتحسين تحفزه على النمو لا على الانكماش، وفي سياق متصل، فإن ثقافة المكافأة لا تقل أهمية عن ثقافة المحاسبة، إذ لا تكتمل الرقابة التنموية دون أن يشعر الفرد أن أداءه المتميز مرئي، وأن المؤسسة لا ترى فقط الأخطاء، بل تحتفي بالإتقان، رقابة تحترم الاجتهاد، وتقدّر الاختلاف، وتحتضن الموظف كعنصر فاعل لا كمصدر خطر محتمل.
إن فكرة «الأخ الأكبر» كانت أيديولوجيا تخيلية للسلطة والرقابة الصارمة ومسخ الهوية، لكن الأيديولوجيات بطبعها مرنة حينما تتحول من يقين مغلق إلى أفق مفتوح، من سؤال من يمارس الرقابة إلى كيف تصبح مرآة للضمير ليصبح هذا المصطلح مرشداً إيجابياً للنماء المؤسسي، ليتحول الخوف إلى وعي، وتصبح المراقبة شكلاً من أشكال الإخلاص الوظيفي والانتماء المؤسسي، فالمؤسسة التي تنصت لنفسها، وتراقب أداءها لا لتدين، بل لتتطور، إنما تمارس أرقى أشكال الفلسفة التطبيقية، التي تكمن في أن تفتش عن قوتها التنويرية وتحتفي بها كنهج تنموي في بيئة عمل أكثر شفافية.