من وحي ستّين عاماً من العمل الجادّ في بناء الدولة ومخالطة الناس وتوجيه دفّة القيادة نحو الطريق الصحيح، يتحدّث صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، عن ظاهرة الفساد في الدولة والمجتمع.

وكيف أنّها قد تتطوّر من ظاهرة متخفيّة إلى أن تصبح ثقافة عامة ينشأ فيها الصغير ويشيب عليها الكبير، وتنتقل من ظاهرة الفساد الإداري إلى ظاهرة إدارة الفساد بسبب عمق تغلغلها في جسم الدولة وخبايا المجتمع بحيث يصبح من الصعب مواجهتها وتجفيف منابعها فضلاً عن استئصالها واجتثاثها من جذورها.

ويسجّل إدانته الحاسمة لهذه الظاهرة، ويكتب عنها درساً بليغ التأثير في كتابه الرائع «علّمتني الحياة» حين أفرد الدّرس الثامن عشر من دروس هذا الكتاب الثمين ليناقش هذه الظاهرة المخيفة تحت عنوان «القاتل الصامت» كاشفاً عن الوجه المتستّر والقبيح للفساد الذي قد يألفه النّاس ويمارسه أصحاب السلطة والنفوذ حتى ينتشر في المجتمع انتشار السرطان في الجسم العليل.

ولأن المجتمع مثل جسد الإنسان صحة واعتلالاً، ينطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم من حقيقة طبّية متعلّقة بالجسد خلاصتها أنّ ضغط الدم هو القاتل الصامت الذي يفتك بالإنسان بطريقة هادئة تشبه التسلّل حيث لا يشعر به الإنسان في بداية الأمر بل قد يألفه ولا يزال يُضعفه حتى يؤدِّي في النهاية إلى سكتة دماغية أو فشل كلّي وعجز دائم.

واستلهاماً من هذه الفكرة الصحيّة يقول سموه: «القاتلُ الصامت للدول هو الفساد»، ثم يفصل القول في الآليّات التي ينتشر فيها هذا القاتل الصامت حتى يألفه المجتمع ويصبح واقعاً مسلَّماً به تحت مسمّياتٍ عديدة مثل الإكراميّات والهدايا والمحسوبيّات والواسطة، حتى يصبح ثقافة عامة.

وتتفاقم شروره حتى يؤدّي في النهاية إلى الفشل في إدارة المشاريع، والعجز عن تقديم الخدمات وتلبية تطلّعات الشباب ليبلغ ذروته في فشل حكومي عامّ سيؤدِّي لا محالة إلى احتجاجاتٍ وصراعاتٍ تدمّر المجتمع وتقضي على سلامه الداخلي.

وبحسب عبارة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم فإن الدرس الذي نتعلّمه من هذا الواقع الفاسد هو ما عبّر عنه سموه بقوله: «علّمتني الحياة أنّ ما هو أخطر من الفساد عدم الإحساس بخطورة الفساد، وتواطؤ المجتمعات وقبولها به» لتكون هذه الكلمات من كلام سموه جرس إنذار لكلّ فئات المجتمع لكي تتنبه إلى ظاهرة الفساد عند بروز قرنها.

وعدم التهاون في أيّ مظهرٍ من مظاهرها مهما كان بسيطاً في نشأته، فإن الفساد كالسّرطان يبدو صغيراً ثمّ لا يزال يتعاظم وينتشر حتى يفتك بكلّ جسدٍ يحلّ فيه، ثم يستشهد سموه ببعض الإحصائيّات الرسميّة الّتي تؤكِّد أنّ هناك هدراً للمال العام على مستوى العالم يصل إلى خمسة تريليونات دولار تضيع في دروب الفساد.

وأنّ ضياع هذا المال له وجهٌ آخر من التأثير يتمثّل في القضاء على أحلام الآلاف من البشر وإمكانيّاتهم ومواهبهم التي يغتالها غول الفساد بلا رحمة ولا هوادة لكي يستفيد منها حفنة من المفسدين الذين ينفثون سموم فسادهم من خلف الجدران وينشبون مخالب قسوتهم في القلوب الضعيفة من وراء الكواليس بتواطؤٍ مع القوى الساكتة على شرورهم ومفاسدهم.

بعد ذلك يلقي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ضوءاً كاشفاً على مظاهر الفساد ونتائجه التي تحصل بعد تغلغل ثقافة الفساد، وتواطؤ القوى الظلاميّة على الخراب فيقول: «عندما تكون لديك طرق متهالكة، أو جسور غير آمنة، اعلم بأنّ هناك مقاولاً قدّم «هدية» للمشرف.

وعندما تعاني المستشفيات في الكثير من الدول من نقصٍ حادٍّ في الأدوية، اعلم بأن هناك من دفع إكرامية لمسؤولي الصحّة، وعندما يبقى آلاف الأطفال بدون مقاعد دراسيّة بسبب تأخّر بناء مدارسهم، اعلم أنّ هناك من استفاد من منصبه في وزارات التعليم» لتكون هذه المظاهر الّتي أشار إليها سموه هي الدليل على استشراء ثقافة الفساد.

وانعكاساً سلبياً لكلّ ما يمكن أن يحصل من السكوت على هذه المظاهر وما تشير إليه من ممارساتٍ تجري في الخفاء، ليخلُص صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم من هذه المظاهر المقلقة إلى استنباط الدرس الذي تعلّمه من هذه الحياة بخصوص ظاهرة الفساد حين قال:

«علّمتني الحياة أنّ الفساد كالسرطان، يبدأ بخلايا صغيرة هنا وهناك، ثم تتكوّن عقد سرطانيّة، ثمّ تنتشر حتى تقضي على أعضاء كاملة، وينهار جسم الإنسان بالكامل».

وبذكاء القائد اللّماح ينفذ سموه إلى صميم هذه المعضلة حين يبدع في رسم ملامح الخيبة التي تعتري وجوه الناس الشُّرفاء وهم ينظرون إلى المفسدين وهم يحصدون ثمار فسادهم وإفسادهم؛ مراتبَ عالية، وأموالًا طائلة، ونفوذًا ملحوظًا إلى غير ذلك من مكتسبات المفسدين، فيقول بنبرةٍ لا تخلو من الإدانة والغيظ:

«عندما يتعلّم الشابّ بأنّ النجاح ليس نتيجة الاجتهاد والكفاءة، بل الواسطة، تتكاثر خلايا السرطان، وعندما يرى التاجر الشريف زميله يفوز بالمناقصات والصفقات بسبب الهدايا والإكراميّات، يفسد الشريف، وتتكوّن عُقد سرطانيّة أكثر.

وعندما يرى القاضي النزيه زميله المرتشي يعيش في رغدٍ ورخاء، ويفلت من العقاب، يبدأ بالتنازل وتقليده، ويزداد السَّرطان انتشارًا، ويترسّخ الظُّلم وتنهارُ العدالة»، ليعود سموه إلى النقطةِ الأخطر والّتي نبّه إليها سابقًا حين قال: «أخطر من الفساد، عدم إحساس المجتمع بخطورته».

لكن كلّ هذه المظاهر المقلقة لظاهرة الفساد لا تَفُتُّ في عضُدِ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الذي ينظر إلى الوجه الإيجابيّ لسياسته الّتي سلكها في مقاومة الفساد عبر ستّين عاماً من العمل العامّ.

وكيف أنّه كان حربًا على هذا الدّاء الفظيع، وكيف أغلقَ منافذه وجفّف منابعه وعاقب كلّ من يتجرّأ عليه ورسّخ مبادئ المراقبة والمحاسبة حتى أصبحت الدولة تتصدّر المنطقة في مؤشِّرات النزاهة والعدالة والشفافية، ليلقي في نهاية هذا الدّرس ضوءًا رائعًا على المكتسبات الّتي حقّقتها الدولة بمكافحتها لسرطان الفساد حين قال: «اليوم يستفيد المجتمع من موارده بشكل كامل غير منقوص، ويجتهد الشباب لإثبات جدارته، ويتنافس التجار بنزاهة وشفافية وعدالة لتقديم الأفضل للمجتمع».

مؤكِّداً على الاستمرار في مكافحة الفساد لأن نفوس البشر ضعيفة، وكوامنُ الشرّ لا يمكن الغفلة عنها في مجتمع ربّما اعتبر فيه الفساد شطارة وذكاء، لتكون الفكرة الختاميّة لسموه في هذا الدّرس العميق من دروس الحياة هي الوصيّة بالاستمرار في مواجهة الفساد وتجفيف منابعه حين ختم كلامه بالقول: «ووصيّتي لمن يأتي من بعدي: لا تتهاون مع السرطان، لا تتهاون مع القاتل الصامت، لا تتسامح أبداً مع الفساد والمفسدين».