وكيف أنّها قد تتطوّر من ظاهرة متخفيّة إلى أن تصبح ثقافة عامة ينشأ فيها الصغير ويشيب عليها الكبير، وتنتقل من ظاهرة الفساد الإداري إلى ظاهرة إدارة الفساد بسبب عمق تغلغلها في جسم الدولة وخبايا المجتمع بحيث يصبح من الصعب مواجهتها وتجفيف منابعها فضلاً عن استئصالها واجتثاثها من جذورها.
ويسجّل إدانته الحاسمة لهذه الظاهرة، ويكتب عنها درساً بليغ التأثير في كتابه الرائع «علّمتني الحياة» حين أفرد الدّرس الثامن عشر من دروس هذا الكتاب الثمين ليناقش هذه الظاهرة المخيفة تحت عنوان «القاتل الصامت» كاشفاً عن الوجه المتستّر والقبيح للفساد الذي قد يألفه النّاس ويمارسه أصحاب السلطة والنفوذ حتى ينتشر في المجتمع انتشار السرطان في الجسم العليل.
وتتفاقم شروره حتى يؤدّي في النهاية إلى الفشل في إدارة المشاريع، والعجز عن تقديم الخدمات وتلبية تطلّعات الشباب ليبلغ ذروته في فشل حكومي عامّ سيؤدِّي لا محالة إلى احتجاجاتٍ وصراعاتٍ تدمّر المجتمع وتقضي على سلامه الداخلي.
وعدم التهاون في أيّ مظهرٍ من مظاهرها مهما كان بسيطاً في نشأته، فإن الفساد كالسّرطان يبدو صغيراً ثمّ لا يزال يتعاظم وينتشر حتى يفتك بكلّ جسدٍ يحلّ فيه، ثم يستشهد سموه ببعض الإحصائيّات الرسميّة الّتي تؤكِّد أنّ هناك هدراً للمال العام على مستوى العالم يصل إلى خمسة تريليونات دولار تضيع في دروب الفساد.
وأنّ ضياع هذا المال له وجهٌ آخر من التأثير يتمثّل في القضاء على أحلام الآلاف من البشر وإمكانيّاتهم ومواهبهم التي يغتالها غول الفساد بلا رحمة ولا هوادة لكي يستفيد منها حفنة من المفسدين الذين ينفثون سموم فسادهم من خلف الجدران وينشبون مخالب قسوتهم في القلوب الضعيفة من وراء الكواليس بتواطؤٍ مع القوى الساكتة على شرورهم ومفاسدهم.
وعندما تعاني المستشفيات في الكثير من الدول من نقصٍ حادٍّ في الأدوية، اعلم بأن هناك من دفع إكرامية لمسؤولي الصحّة، وعندما يبقى آلاف الأطفال بدون مقاعد دراسيّة بسبب تأخّر بناء مدارسهم، اعلم أنّ هناك من استفاد من منصبه في وزارات التعليم» لتكون هذه المظاهر الّتي أشار إليها سموه هي الدليل على استشراء ثقافة الفساد.
وانعكاساً سلبياً لكلّ ما يمكن أن يحصل من السكوت على هذه المظاهر وما تشير إليه من ممارساتٍ تجري في الخفاء، ليخلُص صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم من هذه المظاهر المقلقة إلى استنباط الدرس الذي تعلّمه من هذه الحياة بخصوص ظاهرة الفساد حين قال:
«علّمتني الحياة أنّ الفساد كالسرطان، يبدأ بخلايا صغيرة هنا وهناك، ثم تتكوّن عقد سرطانيّة، ثمّ تنتشر حتى تقضي على أعضاء كاملة، وينهار جسم الإنسان بالكامل».
«عندما يتعلّم الشابّ بأنّ النجاح ليس نتيجة الاجتهاد والكفاءة، بل الواسطة، تتكاثر خلايا السرطان، وعندما يرى التاجر الشريف زميله يفوز بالمناقصات والصفقات بسبب الهدايا والإكراميّات، يفسد الشريف، وتتكوّن عُقد سرطانيّة أكثر.
وعندما يرى القاضي النزيه زميله المرتشي يعيش في رغدٍ ورخاء، ويفلت من العقاب، يبدأ بالتنازل وتقليده، ويزداد السَّرطان انتشارًا، ويترسّخ الظُّلم وتنهارُ العدالة»، ليعود سموه إلى النقطةِ الأخطر والّتي نبّه إليها سابقًا حين قال: «أخطر من الفساد، عدم إحساس المجتمع بخطورته».
وكيف أنّه كان حربًا على هذا الدّاء الفظيع، وكيف أغلقَ منافذه وجفّف منابعه وعاقب كلّ من يتجرّأ عليه ورسّخ مبادئ المراقبة والمحاسبة حتى أصبحت الدولة تتصدّر المنطقة في مؤشِّرات النزاهة والعدالة والشفافية، ليلقي في نهاية هذا الدّرس ضوءًا رائعًا على المكتسبات الّتي حقّقتها الدولة بمكافحتها لسرطان الفساد حين قال: «اليوم يستفيد المجتمع من موارده بشكل كامل غير منقوص، ويجتهد الشباب لإثبات جدارته، ويتنافس التجار بنزاهة وشفافية وعدالة لتقديم الأفضل للمجتمع».
مؤكِّداً على الاستمرار في مكافحة الفساد لأن نفوس البشر ضعيفة، وكوامنُ الشرّ لا يمكن الغفلة عنها في مجتمع ربّما اعتبر فيه الفساد شطارة وذكاء، لتكون الفكرة الختاميّة لسموه في هذا الدّرس العميق من دروس الحياة هي الوصيّة بالاستمرار في مواجهة الفساد وتجفيف منابعه حين ختم كلامه بالقول: «ووصيّتي لمن يأتي من بعدي: لا تتهاون مع السرطان، لا تتهاون مع القاتل الصامت، لا تتسامح أبداً مع الفساد والمفسدين».