محمد بن راشد وإحياء فعل القراءة العربي

قبل عشر سنوات من هذا التاريخ، وفي سياق سعيه الصادق الدؤوب في إعادة مجد الحضارة العربية، وتأهيل الإنسان العربي، أطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، أكبر مبادرة عربية في خدمة اللغة العربية، هي مبادرة «تحدي القراءة العربي»، الذي يعتبر أكبر مشروع عربي على الإطلاق يسعى إلى إحياء فعل القراءة في الثقافة العربية المعاصرة باعتباره من أهم الوسائل الفعالة في إعادة تشكيل العقل وإطلاق قواه الحية.

كما يأتي تجسيداً لصدق الاهتمام باللغة العربية وترسيخ أهميتها في الوعي العربي، ورفع مكانتها بين اللغات في عصر يسجل انتصارات متوالية لكثير من اللغات العالمية على حساب اللغة العربية التي عانت منذ قرون عدة من إقصاء مقصود وتهميش لدورها الفاعل في بناء الوعي وتشكيل الذات العربية التي تجمع على نحو فريد بين الأصالة والمعاصرة لتواصل دورها الريادي في صنع الحضارة والوقوف على قدم الثقة بين جميع الأمم والشعوب.

وقديماً ربط الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي بين اللغة والحرية الحقيقية للأمة حين قال: «وما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار»، لتكون هذه الكلمات الصادقة محفزاً لذوي الشأن من أجل رفع الضيم عن لغة العرب الشريفة.

فكان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم هو صاحب القدح المُعلى والسهم الرابح في هذا الشأن بإطلاقه هذه المبادرة التي نضرت وجه اللغة العربية، ودفعت بالملايين من شبابها وشاباتها للانخراط ببسالة منقطعة النظير في هذا التحدي الكبير حين استجابوا لهذه الدعوة الميمونة، وهبوا مثل نفير الحجيج تلبية لنداء صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي يعطيهم من قلبه.

ويرى فيهم قرة عين للأمة ورهاناً على مستقبلها، فأصبح هذا المشروع من مفاخر دولة الإمارات، ومن محاسن ما نقشه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في صفحات دفتر الخلود والعطاء لهذه الأمة التي ينتمي إليها بقلبه وعقله، ويسعى جاهداً في سبيل استعادة مكانتها اللائقة بها بين الأمم والشعوب.

في هذا السياق من الإدراك العميق لقيمة القراءة في تكوين الشخصية وبنائها بناء سليماً يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد: «أول كتاب يمسكه الطلاب يكتب أول سطر في مستقبلهم».

وفي هذه الكلمة الثمينة إدراك عميق من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بأن فعل القراءة ليس نشاطاً لقتل الفراغ، ولا مجرد هواية يمارسها الشباب العربي للتفاخر والتباهي بكثرة المقروء، بل هو فعل ينبع من رؤية عميقة ترى في القراءة وسيلة لتشكيل الوعي بالذات الحضارية، وتستعيد الموقع الريادي للأمة العربية الذي حققته حين استجابت بكل طاقتها لنداء رب العالمين:

[اقرأ باسم ربك]، لينطلق فرسانها الشجعان على صهوات خيولهم المضمرة من قلب جزيرة العرب وهم يحملون في أيديهم مشاعل النور ومصابيح الهداية وسيوف الحق، ليسهموا في تشييد واحدة من أعظم الحضارات الإنسانية التي تهتم بالعلم والمعرفة وتشييد المدارس والمكتبات ابتداء من حواضر الحرمين.

فالبصرة والكوفة، ثم دمشق وبغداد والقاهرة، وصولاً إلى قرطبة وغرناطة في الغرب البعيد، وبخارى وسمرقند في الشرق الأقصى، لتكون هذه المعالم شاهد صدق على الاهتمام الكبير الذي أولته الحضارة العربية الإسلامية للعلم وتكريم منزلة العلماء.

وتأكيداً على الدور الكبير لفعل القراءة في تنمية الذات وتطويرها وبناء ملكاتها النقدية التحليلية كتب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد درساً بليغ التأثير في كتابه الأخير «علّمتني الحياة»، جعل عنوانه «أنا أفكر إذاً أنا موجود»، تحدث فيه بعمق وبصيرة عن أهمية فعل القراءة وأثره الكبير في بناء الذات العربية، وخص مشروع «تحدي القراءة العربي» بالتنويه والذكر حين ذكر شغفه بهذا المشروع الكبير وأثنى على طبيعة الاستجابة الإيجابية من الأجيال العربية، فقال:

«لدي شغف بأحد مشاريعنا التي أطلقناها قبل عدة سنوات، تحدي القراءة العربي، الذي يشارك فيه ملايين الأطفال سنوياً، ويهدف أن يقرأ كل طالب خمسين كتاباً خلال عامه الأكاديمي»، ثم يعلل صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد سر الشغف بهذا المشروع قائلاً: «وشغفي بهذا المشروع لأني مؤمن بتأثيره الإيجابي طويل المدى على أجيالنا، وقدراتهم العقلية والمعرفية، وهو سلاح الوعي الذي يتحصنون به».

فقد كان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد يستشرف الآفاق البعيدة لهذا المشروع النادر الذي يستنقذ الأجيال من آفة الوقت المهدور، ويوقظ فيهم الإحساس الصادق بالمسؤولية تجاه لغتهم، لتكون مبادرته العظيمة واحدة من أجمل الهدايا التي يقدمها سياسي كبير لهذه الأجيال الغضة الخضراء التي تنتظر مثل هذه اليد الحانية وهذا القلب الكبير.

وحين نتفحص المحتوى التنفيذي لهذا المشروع الريادي نرى أنه يتسلح بأعلى معايير المصداقية والنزاهة ومنح الفرص لجميع الأجيال العربية، ويفسح المجال أمام طاقات الطلاب مستوعباً جميع الأجيال على مقاعد الدراسة.

حيث يقوم الطالب بقراءة 50 كتاباً في عامه الأكاديمي الذي يبدأ عادة من شهر سبتمبر من كل عام حتى نهاية شهر مارس من العام التالي بتقسيم مرحلة التحدي إلى 5 مراحل يقوم فيها القارئ بتلخيص 10 كتب في كل مرحلة، لتبدأ بعدها رحلة التصفيات ضمن تعليمات وخطوات مدروسة تضمن تنفيذ رؤى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد على أكمل الوجوه وأفضل النتائج.

وتشجيعاً لهذه المواهب المتميزة يقدم المشروع جوائز ذات قيمة عالية تبدأ بمليون درهم للمدارس المتميزة في المركز الأول، ونصف مليون درهم للمركز الأول في أبطال التحدي، و300 ألف درهم للمشرفين المتميزين في المركز الأول، و100 ألف درهم للمركز الأول في فئة أبطال الجاليات مع ما تدفعه إدارة الجائزة من جوائز مجزية للفائزين في المركزين الثاني والثالث في كل فئة من الفئات المذكورة.

إن هذا الدعم المالي السخي لا يغطي مطلقاً على الغايات العميقة للمشروع، فصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد يعرف بيقظته المعهودة أن مجرد دفع المال وتشجيع المواهب ليس بذي قيمة إذا كان المشروع خاوياً من محتواه المعرفي، ولذلك يجدد دعمه للمشروع في غاياته الكبرى حين يقول:

«القراءة ليست ترفاً، وليست رفاهية ثقافية، وليست نشاطاً لا صفياً يحضره من يرغب من الطلاب»، ليؤكد بنبرة جازمة حاسمة أن «القراءة هي الحصن الذي يحمي العقل من تآكل قدراته الذهنية وتدهوره المعرفي، وتراجع تركيزه وإبداعه بسبب تغير البيئة التقنية التي يعيش فيها العالم».

ويبلغ حرص صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد ذروته العليا في التأكيد على أهمية القراءة حين يختم ذلك الدرس البليغ الذي تعلمه من الحياة بقوله: «القراءة هي خط الدفاع الأول عن وجود الإنسان، وعدم تراجعه أمام الآلة، أنا أقرأ إذاً أنا موجود».

هذا هو صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، راعي منارات العلم في هذا البلد الطيب وفي جميع أصقاع العروبة، وهذه هي رؤيته للأجيال القادمة التي تسكن سويداء قلبه، ويفكر في مستقبلها ليل نهار، ويراهن عليها ويعلم أنه سيظل ساكناً في قلوبها بسبب ما أسدى إليها من فرص وأتاح لها من مجالات، أطال الله في عمره، وأبقاه ذخراً لهذا الوطن ولأهل العروبة والإسلام.