الخوف على مستقبل الأجيال هو واحد من أرقى أخلاق القادة الذين يتصفون بعمق الإحساس بالمسؤولية، ولهذا الخوف أشكال عديدة؛ ربما يكون خوفاً على مستقبلهم المادي وضرورة توفير العيش الكريم لهم، وربما يكون خوفاً على مستقبلهم المعنوي من خلال التبصر في العواقب الناشئة عن بعض الأوضاع المقلقة التي تحتاج إلى معالجة وتنبيه وتحذير، كي يكون القائد مؤدياً للأمانة.

انطلاقاً من هذه الفكرة كتب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، كلمات عميقة المحتوى داخل كتابه الثمين «علمتني الحياة» جعل عنوانها:

«أنا أفكر إذاً أنا موجود»، توظيفاً للمقولة الشهيرة للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، لكن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، يتجه بها اتجاهاً آخر يتم توظيفه لصالح فكرة إيجابية لمواجهة ظاهرة استشعر سموه، خطرها حين اطلع على دراسة تؤكد أن تركيز الأطفال في البيئة المدرسية تراجع إلى مستوى 7 دقائق فقط، مقارنة بنسبة 18 دقيقة كمعدل كان يتوقعه الخبراء.

وقد أرجع سموه هذا التراجع المخيف إلى انتشار وسائل المعرفة الحديثة والتي تحول بين الإنسان وبين استخدام عقله في القراءة والتفكير، وتوفر للإنسان كل ما يحتاج إليه من المعلومات بمجرد كبسة زر، الأمر الذي انعكس سلبياً على قدراته العقلية ما دفع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد إلى طرح التساؤل التالي:

هل زادت معرفة الإنسان وصغر عقله؟ لينتج هذا السؤال سؤالاً آخر لخصه سموه بقوله: هل زادت المعرفة التي توفرها الآلة، وقل تركيز الإنسان وإبداع عقله، وتراجعت ذاكرته، واضمحل تفكيره العميق؟

تكشف هذه الأسئلة عن فداحة الأوضاع وقوة المخاطر التي تحيط بعقول الناشئة والشباب ممن تراجعت لديهم المساحة الزمنية في استخدام العقل في القراءة والتفكير بسبب الإفراط في الاعتماد على وسائل التعليم الحديثة، وتضييق مساحة استخدام الطاقة العقلية في التفكير وحل المشكلات العلمية، ويرى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، أن في ذلك نذير خطر يجب على الدول أن تتنبه له، لأن قوة الدول بحسب عبارة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، من قوة شعوبها وإنتاجهم وإبداعهم.

وكل ذلك مرتبط بقدراتهم العقلية والذهنية، وأن رأس المال الأهم للدولة هو في عقول أبنائها، ويتوقف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد ببصيرة ثاقبة عند ظاهرة قراءة المحتوى السريع الذي تعرضه وسائل التواصل عرضاً خاطفاً يؤدي إلى تشتيت العقل وضعف التركيز، والاستعاضة عن التفكير العميق بالتفكير السطحي، وعن القراءة المعمقة بالقراءة السريعة المشتتة.

إن هذه الأعراض الرهيبة التي ينبه عليها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد تشكل في مآلاتها النهائية معاول هدم صامتة بطيئة، تنخر في ملكات العقل وقوى الفهم في الأجيال المستقبلية، وإذا لم يتم تدارك هذه المشكلات العميقة فسوف تكون النتائج وخيمة بكل تأكيد.

وقد تنبهت بعض الدول المتطورة في سياق التعليم، وهي دولة السويد، إلى المخاطر الناجمة عن الإفراط في الاعتماد على التعليم الإلكتروني، وأفسحت المجال من جديد للتعليم الورقي القديم بسبب التراجع الحاد في الملكات العقلية والفكرية في شخصيات الطلاب، وها هو صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد يرفع الصوت عالياً في سبيل مواجهة هذه المعضلة التي ستكون آثارها السلبية شاملة.

ويكتب بكل وضوح أنه لا بد من حماية هذا المورد الأهم، ولا بد من تغيير نظرتنا للكثير من عاداتنا الاجتماعية وممارساتنا التعليمية وأساليبنا التربوية لحماية هذا المورد الكبير، حماية عقل الإنسان، وتعزيز تفكيره العميق وتركيزه المستمر، وذاكرته الواسعة وإبداعاته المتنوعة، لأن العقل هو خط الدفاع الأول عن الأوطان، تماماً كما أن العقل المفكر هو خط الهجوم الأول في معركة التنمية والبناء.

بعد ذلك يتوقف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، عند واحدة من أعظم الأدوات في استعادة مجد العقل المفكر، ألا وهي القراءة العميقة فيقول: «ولعل إحدى أهم الأدوات التي يمكن من خلالها تقوية عقول أجيالنا الجديدة؛ القراءة.

ولا عجب أن أول آية في القرآن كانت «اقرأ»؛ لأنها أساس حضاري مستمر في الحفاظ على أهم ما يميز الإنسان عن بقية المخلوقات: عقله»، ولكي لا يبقى الأمر غامضاً يبين صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، المنافع الكبرى للقراءة حين يقول:

«القراءة تدرب على الانتباه لفترات طويلة عكس التصفح السريع والاستهلاك الرقمي المتناثر، القراءة تساعد على التفكير العميق، عكس التفكير السطحي الذي ينتج عن الاستهلاك الرقمي، القراءة تنمي الذاكرة والاحتياطي المعرفي لعقول أبنائنا عبر تذكر الشخصيات والأحداث وتسلسلها.

كما أنها تحفز الأطفال على التحليل والاستنتاج والتقييم أو ما يسمى بالتفكير النقدي، تحفزهم على استخدام عقولهم وهنا مربط الفرس، أهمية التحريك المستمر للعقول، لأن أي عضو في الإنسان إذا لم يتم استخدامه فإنه يفقده، وعقل الإنسان ليس استثناء من هذه القاعدة».

إن هذا الكلام الثمين الرصين الذي يكتبه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، وينبه من خلاله على المخاطر الناجمة عن إهمال طاقات الأجيال العقلية يستحق أن يكون دروساً تدرسها الأجيال ضمن المناهج الدراسية، لأنها إرشادات نابعة من بصيرة ثاقبة وقلب حريص على مستقبل هذا الوطن، ولأجل ذلك .

ولكي لا يظل الكلام نظرياً يشير صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، إلى واحد من المشاريع الريادية التي يوليها أفضل اهتماماته ألا وهو مبادرة تحدي القراءة العربي الذي يشارك فيه ملايين الأطفال سنوياً، ويلزم كل طالب بقراءة 50 كتاباً في عامه الأكاديمي، وهو المشروع الذي لقي نجاحاً منقطع النظير، وأصبح واحداً من أهم مكتسبات دولة الإمارات.

ويحظى بدعم مباشر وقوي من لدن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، الذي وصف علاقته به بالشغف حين قال: «وشغفي بهذا المشروع لأني مؤمن بتأثيره الإيجابي طويل المدى على أجيالنا، وقدراتهم العقلية والمعرفية، وهو سلاح الوعي الذي يتحصنون به».

وتنويهاً بالقيمة الفريدة لفعل القراءة اختتم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هذا الدرس العميق بقوله: «القراءة ليست ترفاً، وليست رفاهية ثقافية، وليست نشاطاً لا صفياً يحضره من يرغب من الطلاب، القراءة هي الحصن الذي يحمي العقل ضد تآكل قدراته الذهنية، وتدهوره المعرفي، وتراجع تركيزه وإبداعه بسبب تغير البيئة التقنية التي يعيش فيها العالم».

لكن أروع ما قاله صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، هو السطر الأخير في هذا الدرس الثمين حين قال: «القراءة هي خط الدفاع الأول عن وجود الإنسان، وعدم تراجعه أمام الآلة» لتكون لؤلؤة الختام هي قوله الرائع: «أنا أقرأ إذاً أنا موجود»، ويا لروعة هذه الخاتمة التي لا تقل سحراً وتأثيراً عن مقولة ديكارت التي بفضلها أصبح رائداً من رواد الفكر الحديث.