هل يمكن أن تتحول الحرية إلى عبء على الإنسان؟
سؤال يبدو غريباً للوهلة الأولى، لأن الحرية وُلدت في وعينا قيمة خلاص وتحرر، غير أن الفيلسوف بيونغ تشول هان يرى أن الحرية في زمننا فقدت معناها الأصلي، إذ لم تعد وعداً بالتحرر من القيد، بل تحولت إلى نظام جديد من السيطرة، وفي كتابه «مجتمع الإرهاق» يصف هان كيف تحرر الإنسان من القيد الظاهر، لكنه ابتكر لنفسه قيداً آخر أكثر لطفاً وأعمق أثراً، قيداً تمارسه الذات على نفسها باسم الكفاءة والطموح والإنجاز، حتى غدا الإنسان رقيباً على نفسه، يقيس قيمته بكم ما ينجز لا بعمق ما يعيشه، وهكذا انقلبت الحرية إلى امتحان دائم للقدرة، واستحال الطموح إلى عبء مستتر، ينهك الجسد، ويستنزف المعنى في آن.
يرى هان أن التحول الأعمق الذي أصاب المجتمعات الحديثة، لم يكن في بنية الاقتصاد أو السياسة، بل في الطبقة الداخلية للوعي الإنساني، فبعد أن كان الانضباط يفرض من الخارج أصبح اليوم ينبع من الداخل، إنها سلطة ذاتية تستمد قوتها من رغبتنا لا من خوفنا، ومن سعينا الدائم إلى الكمال لا من الإكراه، وهنا تكمن المفارقة الكبرى في أن يتحول الدافع الذاتي، الذي ظنناه طريقاً للتحرر، إلى أداة خفية لاستهلاك الذات وإرهاقها.
بهذا المعنى لم يعد الإنسان يعيش صراعاً مع القيود، بل مع التوق الشديد إلى الإنجاز، إنه كائن يطارد صورته المثالية في مرآة الكمال، كلما بلغ غاية فتحت أمامه غاية أخرى، في دوامة لا تسمح له بالهدوء أو الاكتمال، يصف هان هذا التناقض بدقة حين يقول إننا انتقلنا من مجتمع الانضباط إلى مجتمع الأداء، ومن الخضوع للقواعد إلى الخضوع للإمكانات المفتوحة، وفي هذا العالم تتكاثر الخيارات بلا حدود، لكنها تنتج نوعاً جديداً من العجز، هو عجز المعنى.
إن التعب الذي يصفه هان ليس تعباً عضوياً بل روحياً، يتسلل من عمق فائض الإمكان، فالإنسان المجهَد اليوم لا ينهار من العمل وحده، بل من عدم قدرته على إيجاد مسار محدد لحياته، فكل ما حوله يدفعه إلى مزيد من الفعل، من الحركة، من التفاعل، فالبعض يؤمن بأن الراحة تحولت إلى «مهمة» جديدة لإدارة الذات، فينام ليصبح أكثر إنتاجاً، لا أكثر طمأنينة، ويتنزه ليجدد طاقته للعمل لا ليتأمل ويكتشف، وهكذا تتراجع التجربة الإنسانية أمام هيمنة الوظيفة، ويختزل الوجود إلى جدول زمني محكوم بالمردود والنتائج، ومن المنطقي أن الانسحاب من العالم لا يحل هذه الإشكال المعاصر، فنحن بحاجة إلى إعادة هندسة العلاقة بين الفعل والمعنى، فاستعادة قيمة البطء، لا كونه كسلاً أو عزوفاً، بل كونه بعداً تأملياً، يعيد للإنسان إيقاعه الداخلي، فالبطء الواعي هو فعل مقاومة ضد منطق التسريع، الذي يحكم الحضارة الحديثة، أن نبطئ يعني أن نعيد إدراك التفاصيل الصغيرة، التي تمنح للحياة كثافتها، فالبطء هنا موقف فلسفي لا تنظيمي، لأنه يذكرنا بأن السرعة قد تنجز الأشياء، لكنها نادراً ما تنجز الوعي بها.
كما أن إعادة تعريف النجاح منحى مهم لرسم مسار أكثر وضوحاً، فالثقافة الرقمية المعاصرة جعلت النجاح مرادفاً للظهور، إذ يقاس الإنسان بما يرى منه، لا بما يدرك في فكره أو أثره، ولذلك يدعو هان إلى تحرير مفهوم النجاح من المقارنة والقياس، وإعادته إلى أصله الأخلاقي، بأن ينجح الإنسان في أن يكون نفسه، لا أن يكون نسخة محسنة مما يريده الآخرون!
لقد أغدق علينا هذا العصر بأدوات لا تحصى لـ«نفعل»، لكننا في زحام السرعة تعطلت فينا قيمة أن «نكون» فحسب، فالحكمة اليوم لا تكمن في «كم» الإنجاز، فالكثرة ليست بالضرورة مرادفاً للجودة، بل في «كيفية» الاحتفاء بما ننجز، وكيف ننظر إليه، وأن ندرك أن التوازن الواعي جزء من كرامة الفعل، وربما تبدأ النهضة الجديدة من هذا السؤال البسيط والعميق في آن: كيف نعيش ببطء يكفي لأن نشعر بإنسانيتنا؟