ولم يكن ذلك مجرّد حفاوةٍ شكليّة، بل كان عملاً مؤسّسياً، تحمّل فيه أهل العربيّة مسؤوليّاتهم تجاه لغتهم المجيدة، بدعم وتوجيه مباشرين من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي ما فتئ يدأبُ في استعادة مجد هذه اللغة.
واستعادة دورها في تشكيل الفكر والذائقة والشخصية، فهو يعي تماماً الدور الروحي العميق الذي تتركه اللغة في شخصية من ينتمي إليها، ولا ينظر إليها كلغة وظيفيّة، تقضى بها الحاجات والأغراض، بل هي لغة عبقرية في بنائها وفاعليتها، وتستحق أن تظل في مكانتها العليا التي بلغتها، حين نزلت بها آخر الرسالات.
فكأنك تقول له: أنت بعد نفسي في الحبّ والقرب والمكانة العالية، لكن الطالبة لم تفهم الدلالة الغنية لهذه الكلمة، ففسرها لها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، باللغة الإنجليزية، بأنه فخور بها، فغمرتها السعادة، لكن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد شعر بالحزن، على حد تعبيره، لابتعاد الأجيال عن اللغة الأم، وسجّل هذه الحادثة في كتابه الثمين «علّمتني الحياة».
وجعلها الدرس الثاني عشر، بعنوان «ابْعَدي»، ليتحدث من خلال هذا الموقف عن طبيعة إحساسه وتفكيره باللغة العربية، ومدى أهميتها في صقل الشخصية، وصناعة الوعي، وهو ما عبر عنه بقوله: «علّمتني الحياة أن اللغة ليست فقط كلمات وعبارات، بل هي مخزن للمشاعر والثقافة والهوية، اللغة هي الأداة التي ننقل من خلالها انفعالاتنا وعواطفنا، اللغة هي الأداة التي من خلالها نحفز أنفسنا، ونحرك مجتمعاتنا، ونستثير فيهم الوطنية والولاء والانتماء والحمية.
وإذا فقدناها فقدنا كل ذلك»، بهذه الكلمات المتوهجة بالعمق والفخر، يعيد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، تعريف اللغة، وينحي جانباً التعريف السطحي لها، من كونها فقط كلمات وعبارات، بل هي مخزن للمشاعر والثقافة والهوية، وهذا فهم متقدم جداً لطبيعة اللغة التي ينظر إليها فلاسفة اللغة بمثل هذه النظرة العميقة، التي ينظر بها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، فاللغة هي وسيلة نقل المشاعر والانفعالات، وهي الكفيلة بتحريك المجتمع، ولم يعرف التاريخ نهضة حضارية كبرى.
إلا وكانت مسبوقة بنهضة لغوية، لأن اللغة هي التي تصنع الإنسان، فضلاً عن دورها الكبير في تشكيل عاطفة الإنسان القومية والوطنية، وترسيخ مشاعر الولاء للوطن والأمة والثقافة، وبذكائه الفطري العميق، يؤكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، أن فقدان اللغة يعني في جوهره العميق، فقدان كل هذه المكاسب التي لا يمكن تحقيقها مع ضياع اللغة، وتأخر مكانتها في المجتمع والحياة.
وتحمل آلاف القصص الموروثة، وتحمل أمثالنا الوطنية، وعمقنا الثقافي والحضاري، وبين من يفكر ويحلم بلغة غريبة عنا، تحمل ثقافة أخرى، ومفردات أقل، وموروثاً مختلفاً، ومشاعر غريبة، لا تعكس روحنا ولا ذائقتنا ولا حقيقة وجداننا».
فبكلّ هذا الوضوح، يقيم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هذا التمايز الواضح بين اللغة الأم، بكل محمولاتها الحضارية والثقافية ودورها العظيم في بناء العقل والوجدان، وبين اللغة الوافدة، التي ستظل غريبة وقاصرة في التعبير عن أدق المشاعر، ولا تعكس المحتوى الروحي والأخلاقي للناطقين بهذه اللغة الوافدة الدخيلة.
وكانت دولة الإمارات العربية المتحدة من الدول السباقة في هذا المضمار، حيث أشار صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، إلى بعض مظاهر هذه الحماية، المتمثلة في إلزامية تعليم العربيّة في جميع المراحل، فضلاً عن حضورها الثري في كثيرٍ من الفعاليات والمناسبات والجوائز والمبادرات، التي تهدف إلى ترسيخ مكانتها في الوجدان قبل اللسان.
لكن هذه العناية باللغة العربية، ليست كافية في نظر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، لأنه ما زالت هناك فجوة بين الأجيال الجديدة وبين اللغة العربية، ولا يريد سموه أن تتحول هذه الفجوة إلى جفوة، فهذا التحدي ليس خاصاً بدولة الإمارات، بل يخص جميع الأجيال الناطقة بالعربية.
«فقدانُ اللغة هو فقدانٌ للانتماء الشعوريّ، وفقدانٌ للذاكرة التاريخيّة، وفقدانٌ للهويّة»، وأما عن دورها العظيم في الحياة، فيؤكده صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، بقوله:
«اللغة الأم، هي التي تعزز التطور الاجتماعي والتواصل العاطفي للأطفال مع أسرهم ومجتمعاتهم، ودونها هم معرّضون لفقدان ذلك التوازن وفقدان الصلة، اللغة الأم هي الأداة الرئيسة التي يفكر بها الأطفال، ويفهمون من خلالها العالم، وضعف هذه الأداة، هو ضعف لأداة التفكير الأساسية، وبالتالي، ضعف لنموهم المعرفي وقدراتهم الذهنية».
ولا بد أن نؤمن بقدرتها على أخذنا للمستقبل»، ليختم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، هذا الدّرس الثمين، بدعوة قوية واضحة للحفاظ على اللغة العربيّة، وأن هذه المهمة هي مشروع طويل المدى، وليست مجرد لحظة تاريخية عابرة، وأن هذه المحافظة تأخذ شكلاً عملياً، يتجلّى في إطلاق المكتبات ومشاريع القراءة.
وتوفير الجوائز الثمينة، وعقد المؤتمرات، يدعم ذلك كله سياسة حكومية تتحمل أعباء هذا الموقف، وتؤمن به، من أجل خدمة هذه اللغة الخالدة، ليبلغ هذا الدرس ذروته العليا، حين يختتمه سموه بقوله: «وسأستمر في ذلك، لأنّ بقاء العربية في وجداننا وحاضرنا ومستقبلنا، ليس خياراً، بل واجباً ومسؤوليّة، فنحن لا نحمي الكلمات فقط، بل نحمي الفكر، والهويّة، والمصير».