سبقت البحرين شقيقاتها الخليجيات بأشواط في المجال الصحي والطبي، حيث بدأت فيها الخدمات الطبية مع قدوم بعثة تبشيرية من الولايات المتحدة عام 1892 والتي راحت تقدم خدماتها العلاجية للجمهور من خلال بيت مستأجر بالقرب من فرضة المنامة. تلا هذا.
وتحديداً في عام 1893، استئجار دكان في سوق المنامة لاستقبال المرضى وتقديم العلاج المجاني لهم. أما أول مستشفيين أقيما في البحرين فهما: «مستشفى فيكتوريا التذكاري» نسبة إلى الملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا وامبراطورية الهند التي أمرت ببنائه، لكنه عرف شعبياً باسم «مستشفى كوتي» (بدأت دار الاعتماد البريطاني ببنائه في عام 1900 وافتتح عام 1906م بسعة 12 سريراً).
ثم مستشفى الإرسالية الأمريكية (افتتح أبوابه بسعة 16 سريراً في عام 1903م بمنطقة رأس بالمنامة على يد الطبيب والقس الأمريكي صموئيل زويمر تحت اسم «مستشفى مايسون التذكاري» نسبة إلى عائلة مايسون الأمريكية التي أوفدت تلك البعثة الطبية إلى البحرين .
وقدمت دعماً بمبلغ ستة آلاف دولار لبناء المستشفى)، علماً بأن قطعة الأرض التي شيد فوقها هذا الصرح الطبي المبكر كانت من تبرعات الحاكم حينذاك الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، أما أبواب ونوافذ المبنى الخشبية فقد تمّ استيرادها من الهند بحراً.
وفي عام 1926 تمت توسعة المبنى بإضافة قسم خاص للنساء. وداخل هذا المستشفى تمت أول عملية جراحية تحت تأثير المخدر في منطقة الخليج العربي على يد الدكتور شارون وزوجته ماريون ويلز اللذان وصلا إلى البحرين في عام 1898.
وكانت تلك العملية لبتر قدم غواص هاجمه سمك القرش، وتبعتها عملية ثانية بالطريقة نفسها لفتح بطن امرأة بحرينية في الستينيات من عمرها.
لم يقتصر العلاج في المستشفى الثاني على مواطني البحرين والمقيمين على أرضها، وإنما قدم المستشفى خدماته أيضاً لمواطني الدول الخليجية الشقيقة المجاورة.
حيث كان يوفد أطباءه إلى دول الجوار لمعالجة الحالات الحرجة بناء على طلب شيوخها وأمرائها ووجهائها، على نحو ما حدث مع الطبيب الأمريكي بول هاريسون (ت: 1962) الذي كان أول طبيب ومبشر أمريكي ينجح في دخول شبه الجزيرة العربية في عام 1917.
حيث استدعاه إلى نجد الملك عبدالعزيز آل سعود لعلاج عائلته بعد تفشي الأنفلونزا الأسبانية. وبالفعل وصل هاريسون إلى الرياض عن طريق القطيف منتصف عام 1917، ومكث فيها قرابة عشرين يوماً عالج خلالها الكثيرين حتى نفدت أدويته.
وإذا كانت البحرين أول دولة خليجية تقام فيها مستشفيات غير حكومية، فإنها، من جهة أخرى، عـُرفت أيضاً بأنها أول بلد خليجي يؤسس فيه مستشفى حكومي، وذلك حينما تمّ افتتاح «مستشفى النعيم» بالمنامة سنة 1942 بتكلفة بلغت 70 ألف روبية، وأول بلد خليجي يفتتح فيه أول معهد حكومي للتمريض وذلك في عام 1959.
تقف الأدبيات الطبية البحرينية طويلاً عند الطبيب الهندي «إيه. إس. بندركار» (A.S.Banderkar) على اعتبار أنه أول طبيب أجنبي يلتحق بالخدمات الصحية الحكومية في البحرين، وكان ذلك في السنة المعروفة بـ«سنة الطبعة» أي سنة 1925.
ففي ذلك العام رغب حاكم البحرين آنذاك الشيخ عيسى بن علي آل خليفة (1848 ــ 1932) في تخصيص طبيب لمعالجة البحارة والغاصة أثناء تواجدهم في مغاصاتهم في البحر. ولتحقيق هذه الرغبة قامت دار الاعتماد البريطاني (بيت الباليوز) بنشر إعلان في إحدى صحف بومباي تطلب فيه توظيف طبيب هندي للعمل في البحرين.
قرأ الدكتور بندركار وزميل له الإعلان المذكور فقررا التقدم معاً للوظيفة، لكن زميله عدل عن قراراه لاحقاً لأنه حصل على وظيفة مناسبة له في أحد مستشفيات بومباي. وفي هذا السياق كتب بندركار في مذكراته:
«وافقت على العرض ثم سافرت على الفور إلى بومباي ومن هناك أرسلت برقية للطبيب الجراح الذي كان يعمل في المعتمدية البريطانية بالبحرين تفيد اعتذار صديقي ورغبتي في أن أحل محله.
ومن بومباي سافرت على ظهر سفينة بريطانية هندية (يقصد سفينة تابعة لشركة البواخر «B- 1» التي كان وكيلها في البحرين شركة غري ماكينزي، ومقرها آنذاك في موقع مجمع يتيم الحالي وسط سوق المنامة القديم). وبعد 15 يوماً من الإبحار الشاق وصل بندركار إلى البحرين في النصف الثاني من شهر مايو عام 1925.
حيث كانت في انتظاره مجموعة من سفن «الداو» للترحيب به، وكان على متن إحداها الطبيب الجراح بدار المعتمدية الذي سيصبح رئيسه المباشر، فركب معه في سفينته التي نقلته إلى الشاطئ، ليباشر عمله بعد أيام في تقديم العلاج والتطعيمات اللازمة للبحارة والغاصة في أماكن تواجدهم في عرض البحر.
ولهذا الغرض تم تخصيص «بوم» (سفينة شراعية أطلق عليها العوام بوم الدختر، والدختر كلمة شعبية محرفة من أصلها الإنجليزي doctor) باللونين الأبيض والأحمر وبحمولة تتراوح بين 50 و 90 طناً ليتنقل فيه ما بين الساحل وعرض البحر، وما بين سفينة وأخرى في مغاصات اللؤلؤ (الهيرات). والسبب في طلاء «بوم» بندركار بهذه الألوان هو تمييزها عن بقية المراكب وتسهيل التعرف عليها.
وكان بندركار يقوم برحلات إلى عرض البحر تستغرق الواحدة منها ما بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع يعود بعدها إلى البر للتزود بالأدوية والمضادات والغذاء والماء والوقود. وكان يصطحب معه في رحلاته هذه، شرطيين ومـُضمـّد وكاتباً يسجل أسماء المرضى وأنواع أمراضهم وعلاجاتهم، علماً بأن العلاج كان يقدم لكافة الغاصة بمن فيهم غير البحرينيين.
لاحقاً استبدلت سفينته الشراعية بأخرى بخارية، وكان بعد عودته إلى البر يقدم خدماته الطبية لمواطني المحرق من خلال عيادة لم تكن مساحتها تزيد على 21X20 قدماً، بدعم من بلدية المحرق التي وفرت له مساعدين وممرضات وقابلة قانونية.
ومن المؤكد أنّ هذا كان قبل تحويل مسكن زوجة الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة في المحرق إلى مستشفى للتوليد في عام 1947، وهو المستشفى الذي ظل يعمل حتى عام 1961 بعدها أقيم على أرضه مركز الشيخ سلمان الصحي في عام 1976.
وصف بندركار تلك العيادة، التي كان يعالج فيها الأهالي بعد كل موسم غوص، بأنها عبارة عن دكان ضيق له باب كبير في المقدمة ونافذة واحدة صغيرة وتنقصه التهوية والإضاءة، ويصعب الوصول إليه (بسبب موقعه وسط الأزقة الضيقة).
وأشار بندركار إلى أن ذلك الدكان كان، قبل مجيئه إلى البحرين، مكاناً يقدم فيه طبيب هندي من طائفة البهرة العلاج للأهالي وفقاً لأسلوب الطب اليوناني الشعبي القديم.
والمعروف أنّ بندركار بعد إحالته إلى التقاعد في نوفمبر 1955 ظل في البحرين يمارس مهنة الطب من خلال عيادة خاصة افتتحها بنفسه في فريج «الصنقل»، حيث كان يعالج الناس بأسعار رمزية، الأمر الذي جعلهم يحبونه .
ويطلقون عليه اسماً شعبياً سهلاً هو «الدخترعيسوه» (استناداً إلى الحرفين الأولين من اسمه وهما A. S)، ثم الحزن بحرارة حينما علموا بخبر وفاته في بلاده سنة 1964. وهو من جانبه بادلهم الحب بالحب والود بالود وشاركهم في أفراحهم وأحزانهم، وحزن كثيراً لفراقهم يوم عودته إلى بلاده، طبقاً لما كتبه في مذكراته.
ويصف بندركار في مذكراته رحلته البحرية من بومباي إلى المنامة عام 1925 بالرحلة المرهقة والمتعبة، مضيفاً أن ما زادها تعباً هو أنه لم تكن في البحرين في تلك الأيام أي فنادق كي يأخذ فيها قسطاً من الراحة، فأقام بمكان وفرته له الحكومة للنوم وترتيب أموره.
أما عن أكثر الأمراض التي كان يعاني منها البحارة والغاصة آنذاك، فيقول بندركار إن معظم الأمراض الشائعة في المغاصات كانت السعال والزكام والنزلات المعوية التي كانت تصيبهم نتيجة تسخين الطعام المكون من السمك والتمر أكثر من اللازم، كما كان الغواصون يشكون من آلام الأذن والنزيف التي كانت تصيبهم كنتيجة لضغط الماء في الأعماق.
مشيراً إلى أنه لاحظ من خلال عمله أن أكثر من كان يعالجهم كانوا يترددون في الإفصاح عن مرضهم بسبب الخجل. وأضاف بندركار: «قمت بخلع مئات الأسنان التالفة، ووجدت الجميع متعاوناً معي إلى أقصى درجة، وكانوا يشعرون بالعرفان لهذه الرعاية الطبية التي تم توفيرها».
ضمّن مذكراته أيضاً وصفاً للإعصار الذي ضرب البحرين في عام 1925.دعونا نقرأ ما كتبه عن هذا الحدث المروع: «في ساعة متأخرة من الليل تعرضت البحرين والمنطقة المحيطة بها لعاصفة مرعبة فاجأت مئات السفن التي كانت راسية في المغاصات، والتي كان آلاف العاملين عليها يرقدون في سبات عميق بعد يوم عمل شاق دون أن يشعروا ببوادر الكارثة في هذه الليلة المشؤومة.
وفي الصباح التالي أسرع الآلاف من الرجال والنساء إلى الشاطئ وقد ارتفع صراخهم وبكاؤهم وهم يحدقون في البحر في ذهول دون أن يعرفوا شيئاً عن مصير أقربائهم، وقد تلقيت تعليمات بالتوجه إلى البحر في لنش المعتمدية لتقديم المساعدة الطبية وإنقاذ من بقي على قيد الحياة.
وقد وجدنا مئات السفن مقلوبة وطافية فوق سطح الماء، ولكننا لم نجد أثراً للضحايا فيما عدا شخصين تعلقا بحطام إحدى السفن، وقد توفي أحدهما من التعب قبل أن نصل للميناء... وقد ظل مكتب البرقيات مشغولاً لمدة أسبوع دون توقف في إرسال واستلام الرسائل من وإلى أقارب الأجانب العاملين في البحرين للاطمئنان عليهم».
كما ضمّن مذكراته حديثاً عن الخدمات الصحية في البحرين وقت وصوله إليها قائلاً: «لاحظت في بداية وصولي بعدة أيام أنه لم يكن يوجد في البحرين خدمات صحية حكومية سوى مستشفى فكتوريا التذكاري.
الذي كانت خدماته مقتصرة في البداية على علاج المرضى من موظفي (بيت الباليوز) أي دار الاعتماد البريطاني، لأنه في الأصل كان تابعاً لهذه الوكالة البريطانية، وأيضاً معالجة بحارة البواخر التي كانت ترسو عند ميناء سترة التابع لشركة نفط البحرين (بابكو)، إلا أنه فتح أبوابه فيما بعد وبدأ في علاج المرضى البحرينيين».
كما كان لبندركار دور كبير وتعاون وثيق مع مستشفى الإرسالية الأمريكية في مكافحة الأمراض. حيث كانت لمستشفى الإرسالية جهود كبيرة وواسعة في علاج مواطني البحرين بل حتى مواطني البلدان المجاورة الذين كانوا يتعالجون فيه، ولاسيما بعد أن أصبحت كافة التخصصات العلاجية من أجنحة وأقسام للمختبرات والأشعة والولادة متوفرة فيه بقيادة الدكتور بول هريسون الذي أمضى نصف قرن من عمره في هذا المستشفى.
وفي مكان آخر من مذكراته تطرق إلى علاقته بحاكم البحرين آنذاك الشيخ عيسى بن علي آل خليفة فوصفه بالجود والكرم ورجاحة العقل. ثم أضاف أنه كان كثير التردد على مجلسه بالرغم من وعورة الطرق المؤدية إلى قصره آنذاك.
كما أن الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة (1872 ــ 1942) كان يصطحبه معه إلى رحلات القنص في الأربعينيات، وصادف أن التقى في إحدى تلك الرحلات بالملك عبدالعزيز آل سعود وحاشيته ثم بحاكم الكويت حينذاك الشيخ أحمد الجابر الصباح ومرافقيه.
وفي آخر مذكراته يصف عهد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة الذي بدأ في عام 1942 واستمر حتى وفاته في عام 1961م بعهد المنجزات الكثيرة والمتعددة، ثم لا ينسى الدكتور بندركار، وهو يروي ذكرياته في البحرين، أن يشكر أهالي البحرين وحكامها وشيوخها وتجارها وشعبها على ما أحاطوا به من رعاية واهتمام وتقدير طيلة إقامته في البحرين حتى تاريخ تقاعده في نوفمبر 1955.

