باستثناء ما كتبه صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، في سيرته الذاتية الأولى عن والدته المغفور لها الشيخة لطيفة بنت حمدان آل نهيّان رحمها الله، لم أقرأ في جميع ما قرأت من كتابات صاحب السموّ كالذي قرأته في الدرس العاشر من دروس «علّمتني الحياة» والذي جاء بعنوان «أنا جيت للدنيا وأنا ما معي شي» فقد وصل إلى مستوى باهر من الرقّة والشجن والشعور العميق بالحبّ العظيم لهذا الوطن وأهله الطيّبين وأسرته القريبة إلى قلبه، واستلهام الدروس المؤثّرة من مطلعٍ شعريٍّ بديعٍ كان صاحب السموّ قد افتتح به إحدى قصائده قبل أكثر من ثلاثين عاماً يقول فيه:
أنا جيت للدنيا وأنا ما معي شي
وإن رحت منها ما معي شي منها
خلوني أستانس طرب دامني حي
وإن متّ ما أدري جثتي مين دفنها
وعلى الرغم من طول المدة الزمنيّة التي مرّت على هذا المطلع الشجي إلا أنّ صداه ما زال يتردّدُ في وجدان صاحب السموّ ويتغلغل بين جوانحه، ويستلهم منه أعمقَ الدروس في تشكيل رؤيته لهذه الحياة الفانية حيث ظلّ معه كحكمةٍ ثابتة تكشف له طبيعة هذه الحياة التي تسرق منّا الأعمار ولا تعطينا في النهاية إلا السراب وهو ما عبّر عنه صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد بقوله: «انتهى الملتقى، وانفضّ الجمع، ومرّت السنوات، وبقي هذا البيت معي، بقي معي كحكمة ثابتة: أتينا دون شيء، وسنذهب بدون شيء، في رحلة هي كالحلم»، ليقصّ علينا صاحب السموّ جملة من الدّروس التي تعلّمها من هذه الحكمة قائلاً: «تعلّمت ألّا أثقل نفسي أثناء هذه الرحلة، لا أثقل نفسي بالهموم، لا أثقل نفسي بالقلق والمخاوف، لا أثقل نفسي بالأمتعة الكثيرة، لا أثقل نفسي بالتعلّق بالأشياء، لأنّ الأشياء سوف تُنسى، والآثار سوف تُمحى، والذكريات سوف تذوي وتنتهي» بكلّ هذه الشفافية وبهذه اللغة الرقيقة التي تقترب من حدود البوح يتحدّث صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد عن الدروس العميقة التي بقيت من تلك الحكمة البسيطة التشكيل العميقة التأثير، حيث أضاء واحدة من أكثر المشكلات تعقيداً لحياة الإنسان وهي الاستكثار من كلّ شيء حتى يغفل الإنسان عن حقائق الحياة، ويلتهي بالتكاثر في الأموال والأولاد والأمتعة والأشياء، لكنّ صاحب السموّ يفتح عين البصيرة على لحظة الميلاد والقدوم حين يأتي الإنسان إلى هذه الحياة بلا شيء، ثم يغادرها بلا شيء، ليكون كلّ ما جمعه من حُطام الدنيا عبئاً ثقيلاً ينوءُ بحمله، فكانت هذه الحقيقة هي الّتي فتحت ناظر القلب والبصيرة في شخصيّة صاحب السموّ الذي سلك مسلك المتخفّفين من لذّات الدنيا، ومشى في هذه الحياة خفيف الحمل والظهر لم يُثقل نفسه بالهموم والقلق والمخاوف، ولم يحرص على التعلّق بمتاعها الفاني ولا أشيائها المنقضية لأنّ الأشياء سوف تفنى وتزول، والذكريات سوف تذبل كما تذبل الورود، ولن يبقى سوى ما ترك الإنسان خلفه من حميد الآثار، فالعاقل من نظر إليها بعين الرحيل، والمغبون من نظر إليها بعين البقاء، وشتّان شتّان ما بين النظرتين.
ويواصل صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد تأمّلاته في مسير الحياة ومصائر البشر من خلال هذه الحكمة البسيطة العميقة، والتي علّمته أنّ الحياة بسيطة تستحقّ أنْ نعيشها بجمالٍ ونقاءٍ وطيبةِ نفس، ليواصل صاحب السموّ الحديث عن الدّروس التي تعلّمها من هذه الحكمة قائلاً: «بقيت معي هذه الحكمة عبر السنين، وعلّمتني أن أعيش ببساطة ورضا، بدون إسراف وبدون مطامع، بدون جزع من أي خسارة، وبدون تعلق بأي شيء» ففي هذه الكلمات المعدودات يضيءُ صاحب السموّ المناطق العميقة الغور في النفس حين ترضى بالقليل وتستمتع بالحياة وتزهد في الاستكثار منها، فيبتعد عن كلّ مظاهر التعلّق بهذا المتاع الفاني، ويتجنّب خلق الإسراف والتبذير، ويحفظ قلبه من شعور الجزع الذي يرهق الروح حين يخسر الإنسان بعض مكاسب هذه الحياة، ويوطّن نفسه على الصبر واحتمال المفاجآت مهما كان وقعها على النفس ثقيلاً.
وفي سياق الحديث عن الدّروس العميقة التي استلهمها صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد من هذه الحكمة يلقي سموّه ضوءاً كاشفاً على خُلُق التواضع الدالّ على جوهر الإنسانية الصادقة فيقول: «علّمتني هذه الحكمة أننا كبشر لا بد أن نتواضع، لأنّنا لا نملك شيئاً، كلّ شيء مؤقت، نحن كمن يستأجر شيئاً ثم نتركه أو يتركنا»، ثم يواصل قائلاً: «تواضع لأنّ كلّ شيء مؤقت، الدائم وجه الله، ونحن وهذه الأرض وما عليها ملكٌ له وحده، الماضي والحاضر والمستقبل ملكٌ له وحده» ففي هذه الكلمات المتوهّجة بالحكمة يُرشدنا صاحب السموّ إلى واحد من أكرم الأخلاق ألا وهو خُلُق التواضع الذي هو اعتقاد الإنسان بعدم أفضليّته على أحدٍ من خلق الله مهما كان مستواه عالياً في هذه الحياة، وهو خُلُق الصدّيقين وأصحاب البصيرة، ولا يوفّق إليه إلا من سبقت له السعادة، ويُعلّل صاحب السموّ السبب الدّاعي إلى التواضع وهو أنّ كلّ شيء مؤقت وزائل ولا يبقى إلا وجه الحيّ القيوم المتفرّد بالمُلك والّذي له المكان والزمان والإنسان وكلّ ما بين السماء والأرض من العالمين، فأيُّ مناسبة بين التكبُّر وبين الإنسان المخلوق من طينٍ ثم من نطفةٍ من ماءٍ مهين.
بعد ذلك ينتقد صاحب السموّ الفكرة المتجذّرة في القلوب وهي أنّ قيمة الإنسان فيما يملك، ليطرح صاحب السموّ فهماً آخر خلاصته أنّ قيمة الإنسان فيما يترك من الآثار الحميدة والإنجازات النافعة للبشر ليصحّح بذلك ميزان القِيَم بين البشر، ثم يُجيل نظره في وسائل التواصل الاجتماعي وما يُنشر على صفحاتها من ثقافة الاستعراض الّتي يتباهى النّاس من خلالها بامتلاك الدُّور والقصور والسيّارات والأملاك والألبسة والرحلات وغير ذلك من المظاهر الفارغة مما يعكس تعلّق النفوس بهذه المظاهر الدالّة على خواء النفوس من فهم المغزى العميق للحياة، وليكون هذا الخواء سبباً في كلّ ما يشعرون به من الخوف والقلق والتعلّق والاكتئاب وغير ذلك من أمراض العصر الشائعة والتي جعلت الحياة سجناً مزخرفاً يخدع الإنسان ويحرمه من الشُّعور الصّادق بمعنى الحريّة الأصيل.
ويبلغ صاحب السموّ ذروة التأثّر حين يتكلّم عن لحظة الذهاب الّتي هي قَدَرٌ مقدور على كلّ جبين، فيتكلّم عن الأشياء الّتي سيتركها بعد عمرٍ طويل والتي تتجسّد أوّلاً في بنائه لمدينةٍ يفاخر بها العالم هي مدينة دبي الّتي وهبها حياته، وجعل منها أيقونة تُبهرُ العالَم وتُلهمُ الشعوب، وتُوفّر الفرص وتتسع بقلبها الكبير لجميع البشر.
وفي موازاة دبي يفتخر صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد بما أنجزه من قياداتٍ ومواهبَ عمل على صناعتها، وسلّمها مواقع القيادة لكي تقود المجتمع المتماسك المتراحم الذي بناه صاحب السموّ، وفجّر فيه ينابيع الخير والعطاء، ليختم هذا الدّرس البديع بكلماتٍ تقطُرُ رقّةً وعذوبة حين يقول: «نعم سأذهبُ من دون شيء، ولكنني أحببتُ كلّ شيء، أحببتُ البشر، أحببتُ الشعر، أحببتُ الخيل، أحببتُ أسرتي وأحفادي، أحببتُ شعبي ووطني، ووهبتهم كلّ ما أملك، وسأهبهم ما بقي من حياتي بإذن الله».
سيّدي صاحب السموّ، أطال الله في عمرك، ولا زلت سراجاً يضيءُ جنبات هذا الوطن الّذي أحببته وأحبّك، وحفظ الله لك أسرتك الّتي نذرتها لهذا الوطن، والسّلام على قلبك الطيّب النبيل الّذي يزرع الحُبّ في القلوب، وعلى وجهك المعمور بالسكينة والهيبة والسلام يا ضمير الوطن وفارسه الشجاع.