بقدر ما كانت فرحتي غامرة بسماع نبأ فوز البروفيسور عمر ياغي بجائزة نوبل للكيمياء، بقدر ما شعرت بالفخر لأننا كعرب سبقنا العالم الغربي إلى تقدير هذه الأيقونة العلمية قبل أن تلتفت إليه نوبل.
كثيراً ما نسمع أننا أمة لا تقدر كفاءاتها، إلا أن هذه المرة قد وُفّقنا في الالتفات إلى عقلية استحقت جائزة نوابغ العرب العام الماضي، وقد سلمها له صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، وجائزة الملك فيصل العالمية في العلوم، قبل أن يلتفت إليه الغرب ليمنحه التقدير نفسه الذي انطلق من أمته.
الموهوبون نجدهم في قاعات الدراسة، وبين جدران المنزل. غير أن كثيرين وئدت مواهبهم لأن معلمهم أو والديهم لم يكونوا على قدر من الوعي لاستيعاب تلك العقلية العظيمة.
البروفيسور ياغي قال بكل فخر أمام مؤسسة نوبل «نشأت في أسرة متواضعة جداً، كنا حوالي 10 أشخاص في قاعة صغيرة، نتقاسمها مع الماشية التي كنا نربيها».
وبعد بلوغه الخامسة عشرة أرسله والده - الذي يقدر العلم - إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمتابعة تعليمه، حيث قال ابنه مقولته الشهيرة «العلم أكبر قوة تحقق المساواة في العالم». وهي بالفعل كذلك، لأن الكفاءة محايدة بطبعها، ولا تقبل أن تنحاز لأحد. الكفء الحقيقي لا يختلف عليه اثنان، بل يخجل أن يشكك في قدراته خصومه قبل أنصاره.
من أبرز إنجازات ياغي، تطوير أجهزة تستخرج الماء في هواء صحراوي جاف لا تتجاوز رطوبته نسبة 20 في المئة. ووصف في تقرير إعلامي قطرات الماء وهي تتشكل في صندوق مغلق فقال بتأثر «كانت رؤية تلك القطرات واحدة من أروع اللحظات في حياتي.. فهذا يعني أن بإمكاني خلق ماءٍ حيث لا ماء».
فالموهوب هو شخص لديه استعداد فطري لتحقيق إنجازات يشار إليه بالبنان في مجال واحد أو مجالات عدة، ويمكن للبيئة التي ينشأ فيها أن تصقل مواهبه، فيحقق أداء أعلى من أقرانه في مجالات التفكير والمهارات، ويحتاج منا كل الدعم الممكن لتحقيق أقصى إمكاناته.
ويمكن قياس درجة الموهبة عبر مزيج من الأدوات مثل مقياس الذكاء IQ، ومعايير التفكير الإبداعي، فضلاً عن الأداء الأكاديمي في مواد معينة. المشكلة في مدارسنا وفي لجان التوظيف تكمن في تركيز القائمين عليها على المعدل الأكاديمي وننسى باقي المعايير.. ربما لأنها لصيقة في كل خريج وكل طالب، بعكس المقاييس الأخرى التي تتطلب معلماً مؤهلاً لاكتشاف بوادر الموهبة قبل أن تتلاشى.
وهناك طرق عديدة لاكتشاف الموهوبين، أشهرها الملاحظة الصفية والتربوية، والتقييم الجماعي، والمقابلات الذاتية، واستبانات تقييم الصفات الشخصية.
من الصفات الشخصية مثلاً قوة الدافعية والالتزام والمثابرة، فهي عناصر داعمة لاكتشاف الموهبة واستمرار بريقها. هناك أيضاً ملاحظات تبرز مثل حب التساؤل وشغف التعمق في الأشياء والميل نحو التفكير غير المعتاد.
أتمنى أن يصبح هناك مؤشر عربي للموهوبين في كل مدرسة، لا يفترض أن يكون مرتكزاً على المعدل الدراسي الذي أشبع تمجيداً، حتى إذا ما جاءنا الخريجون الجدد صدمنا بأن ذلك المعدل لا يعكس نبوغاً ولا موهبة، وفي بعض الأحيان لا يعكس مقدرة على حل أبسط المشكلات ولا شغفاً بأي شيء في هذه الحياة، فنمضي وقتاً طويلاً في تدريب الشباب لعل وعسى أن نلتقط خيطاً يأخذنا إلى مكامن قدراتهم.
العالم العربي عمر ياغي لم ينل تقديراً رمزياً فحسب، بل نال أيضاً مكافأة مالية من جائزة نوبل بلغت نحو 1.17 مليون دولار، اقتسمها مع زميليه الياباني والبريطاني.
وهذا يذكّرنا بأن التكريم المعنوي لا يكتمل إلا بدعم مادي يتيح للمواهب أن تزدهر.
نحن بحاجة إلى استثمار حقيقي في اكتشاف الموهوبين وصقلهم، وإلى إعداد من يملكون المقدرة على اكتشافهم في سن مبكرة، ثم تقديرهم مادياً ومعنوياً على امتداد الوطن العربي وفي كل الميادين.
ولن نسبق عجلة الزمن ما لم نضع الأكفأ والأكثر موهبة في مقدمة الركب.