هذا هو الدرس الثاني من الدروس الثمينة التي خطّها يَراعُ صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، في كتابه البديع (علّمتني الحياة) وهو درسٌ جديرٌ بأن يكون في قلب كلّ إنسان يرغب في أن يعيش الحياة بمعناها الخصب الجميل، فليس كلّ من يمشي على هذه الأرض يعيش الحياة بمعناها الصحيح.

فجاءت هذه الكلمات التي صاغها صاحب السموّ على شكل تساؤلات لكي تستثير فينا عزيمة الرغبة في تحقيق المعنى الصحيح للحياة والعيش فيها بشجاعةٍ تجعل للمغامرة والجرأة طعمًا خاصًّا يمنح الحياة بُعدًا آخر يتجاوز أبعاد الروتين والخوف والعيش على حافة الحياة، فصاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد يحمل بين ضلوعه قلبًا جريئًا يعشق التحديات، ويتذوّق الحياة على طريقته الخاصّة التي تجعل لكلماته هذا التأثير العميق الفريد.

«هل جرّبتَ أن تعيش؟» بهذا السؤال الرصين يفتتح صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد حديثه عن الدرس الثاني من الدروس التي تعلّمها من هذه الحياة، وقبل أن يجيب المسؤول عن السؤال، يُردف صاحبُ السموّ هذا السؤالَ بثلاث جمل مسبوقة بأداة النفي «ما» لكي يختصر طريق الجواب، ويطرح فكرته عن المعنى الحقيقي للعيش في هذه الحياة، فيقول:

«ما عاش من لم يذق طعم الحياة»، بمعنى أنّ المشي على هذه الأرض دون الانخراط في تحدّيات الوجود كإنسان هو سلوكٌ لا قيمة له في معيار الإنسانية الحقّة، ثم يوضّح صاحب السموّ المقصود بطعم الحياة حين يذكر تفاصيل العيش في الحياة فيقول: «ما عاش من لم يذق طعم الفوز، أو لذّة السباق، أو لذّة اللحظات قبل السباق، شعور التحدّي والترقّب والأمل وخفقان القلب والاختبارات الجديدة لحدود قدراتنا وإمكاناتنا».

فالعيش الحقيقي هو الدخول في قلب التحدّيات وتذوّق طعم الفوز في جميع مسارات الحياة المُتاحة، حيث ينفعل الإنسان بالنتيجة مهما كان حظّها من التوفيق أو الإخفاق، فالمهمّ هو الشعور بالقدرة على دخول مدار التحدّي وتحقيق معنى استخراج أفضل ما في الإنسان من الإمكانيات والقدرات.

إنّ فكرة الدروب الجديدة هي واحدةٌ من أعمق الأفكار حضورًا في تجربة صاحب السموّ، وهو الذي ما فتئ يردّد البيت الشهير:

أمشي على درب ما توطاه الأقدامي

وإن وِعرت الدّرب يعجبني المشي فيها

وها هو يعود إلى التأكيد على عمق هذه الفكرة في هذا الدرس الثاني من دروس الحياة حين يقول: «ما عاش من لم يمشِ دروبًا جديدة، أو يجرّب أشياء جديدة، المشي في طريق جديد وإن كان وعِرًا يعطيك تجربة المرّة الأولى وجمال الدهشة الأولى، أمّا تكرار التجارب فهو اجترارٌ لذكريات سابقة» .

فالحياة القويّة هي في اختراق الدروب المجهولة وليس في اقتفاء الآثار المسلوكة، وحين تكون هذه الرؤية ملازمة للإنسان فإنّ حياته سوف تكون رحلة متواصلة مع التحدّيات واكتشافًا للمزيد من المفاجآت التي تمنح الإنسان روعة الإحساس بدهشة التجربة الأولى ولن يظلّ يجترّ التجارب السابقة التي تجعل الحياة رتيبة مملّة، لأنّ الدخول في قلب تجربة جديدة بحسب عبارة صاحب السموّ له لذّة لا يعرفها إلا من يمتلك شجاعة البدايات، وجرأة العيش على حدود القدرات الّتي أعطيها الإنسان.

والّتي ستظلّ مجهولة غير فعالة ما لم يسخّرها الإنسان في البحث عن حياة تليق بالإنسان وطاقاته المبدعة الثمينة. ثمّ يعود صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد إلى استنهاض الهمم من خلال طرح الأسئلة التي تجعل القارئ والسامع يتفقّد نفسه، وهل هو من النماذج الإيجابية التي يخاطبها صاحب السموّ أم أنّه من هؤلاء الذين اقتنعوا بالعيش في الظلّ في هذه الحياة دون أن يتركوا أثرًا يستحقّ الذكر، فيقول:

«هل جرّبت أن يكون لك حلم أو طموح ؟ هل جرّبتَ أن تكون لك غايات عُليا تسعى إليها ؟» ثم يوجّه صاحب السموّ سهام النقد إلى الإنسان القانع بأقل القليل فيقول: «ما عاش من كان همّه عبور يومه إلى اليوم الذي يليه»، ثم ينتقد الحياة الفارغة من الأهداف العظيمة ويشبّهها بالسفينة التائهة في عرض البحر حين يقول:

«الحياة دون أهداف مثل السفينة التي تُبحر دون وجهة ودون بوصلة، ودون غاية» ثم تزداد نبرة صاحب السموّ في التحذير من القبول بأي حياة فيقول: «لا تعشْ حياة صغيرة، أو نصف حياة» لكنّ أروع ما كتبه صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد في هذا الدرس هو قوله:

«لا تخفْ من أن تفشل في أحلامك العظيمة، بل خفْ من النجاح في المهام التافهة، لأنّ قدرك في الحياة على قدر أحلامك» وبكلّ صدق فإنّ هذا الجزء من الدرس هو اللؤلؤة التي تتوسّط عقد الحكمة، فالفشل في تحقيق الأحلام العظيمة ليس عيبًا، بل العيب المذموم أن ينال الإنسان الثناء على تحقيق الأحلام التافهة.

فالنّجاح في هذا المسار هو الوجه الآخر للفشل، ومن هنا يحذّر صاحب السموّ من الانزلاق إلى هذه النقطة الخاوية من روعة الحياة وتحدّياتها، فهو يريد للإنسان أن يعيش الحياة المليئة بالتحدّيات، المكتظّة بالعقبات كي يكون للسّير فيها معنى يستحقّ الاحترام، وإلا فإنّ الطرق السهلة تتّسع لكلّ من سار فيها ولا يمكن تمييز القوي فيها من الضعيف. وكما جعل صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد سؤال: هل جربت أن تعيش عنوانًا لهذا الدرس الذي تعلّمه في مدرسة الحياة، فكذلك ختم به هذا الدّرس وشفعه بتقديم رؤيته لمعنى الحياة من خلال علاقتها بالسنوات فقال:

«هل جرّبت أن تعيش ؟ ليست الحياة بعدد السنوات، بل بعدد الأيّام التي عشتَ فيها حياة حقيقية»، فمراد صاحب السموّ هو تغيير الفكرة السائدة عن أنّ الحياة هي ما نعدّه من الأيّام والسنوات ليطرح مفهومًا جديدًا للحياة هو ما يسمّيه الحياة الحقيقية وهذا يعني أنّ هناك حياة زائفة خاوية قد يعيشها الإنسان وهو يدور في حلقة فارغة لا إبداع فيها ولا إنجاز.

فهذا النوع من الحياة لا قيمة له في ميزان صاحب السموّ الذي لا يعترف إلا بنوعٍ خاصٍّ من الحياة هو النوع المبدع الذي يشعر معه الإنسان بأنّه عاش الحياة بمعناها الحقيقيّ لأنّ التاريخ وبحسب عبارة صاحب السموّ لن يذكر أصحاب الأحلام الرتيبة وذوي العزائم الضعيفة بل سيكتب بمداد من الفخر أسماء أصحاب العزائم القويّة الذين خاطروا بحياتهم من أجل أحلامهم، من الذين تجرّؤوا على المشي في دروب وعرة لم يسبقهم إليها أحد، لتكون آخر كلمة يكتبها صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد في نهاية هذا الدرس البليغ من دروس الحياة هو «أشهد أنني عشت».