هذا هو الخلود الحقيقي»، بهذه الكلمات المتوهّجة بالحبّ والوفاء وصف صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، الجوهر العميق لشخصية المغفور له طيب الذكرى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان، رحمه الله، حين وصل إلى سيرته الطيبة في سيرته الذاتية (قصّتي: 50 قصة في خمسين عاماً) وهي كلمة مقتصدة لكنّها عميقة الدلالة على الحضور الفريد لذلكم المؤسّس الباني الذي أضاف إلى الحياة سيرة ستظلّ الأجيال عميقة الوفاء لها كمظهرٍ متفرّدٍ من مظاهر الخلود الإنساني في الضمير العامّ للوطن وأبنائه الأوفياء المخلصين.
وأنّ ما أنجزه وما سينجزه في مسيرته الرائعة هو خير شاهد وأصدق دليل على ما بذل من الجهود المضنية في سبيل سعادة شعبه والارتقاء بوطنه إلى مصافّ الدول التي تليق بها الحياة الطيبة الكريمة، وأنّ سعادة شعبه وتقدّم وطنه كانت هي أطيب الطيبات في وجدانه المعمور بالوفاء لهذا الوطن وحبّ إنسانه الطيب النبيل.
ويقتنص العِبَر والدروس التي تستحق أن تكون مُدوّنة في هذا السِّفْر النفيس الذي يحكي في جزئه الأول قصّة صاحب السموّ مع هذه الحياة، وهي القصّة التي كان للعمران والبنيان أن يشيرا إلى محتواها لكنه آثر أن يكتب الحياة كما عاشها، وأن يصوغها على شكل حكمةٍ عميقةٍ في أسلوبٍ بسيط تستلهمه الأجيال، وتأخذ منها الدّروس والعبر، وهو ما عبّر عنه بقوله في الصفحة الأولى من الكتاب:
«أفضلُ إرثٍ نتركه ليس الأموال ولا العمران والبنيان، بل الحكمة الحقيقية، والمعرفة النافعة والكلمة الطيبة التي تتجاوز حدود الأزمان والأوطان، ويستفيد منها القاصي والداني»، فالحياة بالنسبة لصاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد هي المدرسة الكبرى التي يتعلّم فيها الإنسان أعمق الدروس، ويأخذ منها أصدق الخبرات، وهو ما عبّر عنه بكل جزم ووضوح حين قال في كتابه الثمين (رؤيتي):
«أنا ابن قبيلة عربية في النهاية، وأبناء القبائل يستقون العلم والحكمة وبُعد النظر من أهلهم أكثر مما يستقونها من المدارس، قادةٌ كثيرون لم ينتظموا في المدارس فكانت مدرستهم الحقيقية الحياة، والمراقبة الدقيقة لكل ما يجري حولهم».
إنّ كل درسٍ من الدروس التي اشتمل عليها هذا الكتاب الثمين يحتاج إلى مقالة ضافية تضيء فكرته الأساسية، وتربط على نحو ذكيّ بين جميع أجزاء الكتاب وبين السياق العام لحياة صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد، وهي حياة حافلة بالإنجازات مليئة بالدروس الملهمة والمواقف المشرّفة التي تبعث فينا العزيمة، وتستنهض منا الهِمَم، وتُلهمنا السّير الصحيح في هذه الحياة المليئة بالتحديات والصعوبات.
حيث بدّد في هذا الدرس العميق كلّ ما يفكر به صُنّاع القرار من أنّ الرؤية يجب أن تكون جاهزة كي تنطلق القوى التنفيذية لإنجاز ما تمّ التخطيط له.
لكنّ صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد يؤكِّد خلاف ذلك حين اتخذ مبدأً ثابتاً عبر ستين سنة من العمل خلاصته «الحركة تصنع الإنجاز» لأنّ الإنجاز لا يكون بالانتظار، وليس هو ثمرة الدراسات ولا وليد الخطط، بل هو الثمرة الطبيعية للحركة؛ لأنّ الرؤية لا تتّضح والخُطّة لا تُفهم والطريق لا يظهر إلا حين يبدأ الإنسان بالحركة، وفي هذا السِّياق يستلهم صاحب السموّ مقولة عميقة من التراث الديني تقول: «حين تبدأ السير إلى الله ستظهر لك الطريق».
تحرّك لكي تُفتح لك الأبواب، تحرّك لكي تفهم الطريق ويزول الغموض، تحرّك لكي تكتشف قِمَماً جديدة خلف كلّ جبل تريد أن تقطعه، ثم يترنّم ببيتٍ جميلٍ من الشعر يقول فيه:
«الطريق إلى الراحة يحتاج حركة، الطريق إلى النجاح يحتاج حركة، الطريق إلى المستقبل يُقطع بالحركة وليس بالانتظار والتردّد»، وهذا الفهم العميق للعلاقة بين الراحة والحركة يذكّرنا بالبيت الشهير لأبي تمام مخاطباً الخليفة المعتصم بعد رجوعه من فتح عمورية قائلاً: