ترمومتر السعادة

تصدر كل عام نحو خمسمئة دراسة علمية تتناول تأثير السعادة أو well-being في حياة الناس، وهو رقم هائل في العلوم الإنسانية الحديثة.

وهذا دليل على أن الشعوب بلغت من الرخاء والاستقرار الاقتصادي والسياسي والتقدم الصحي الذي تنعم به، ما يستحق البحث عن أقصى درجة ممكنة من السعادة وجودة الحياة. ولم يكن ذلك ممكناً في القرون الماضية، حينما كان الإنسان في فقر مدقع، بالكاد يجد فيه قوت يومه.

وهذا ما وجدته أثناء دراسة موسعة، أعددتها، وهي تتناول سلوكيات الموظفين مع القياديين، وقد برز لي كم كبير من الدراسات يتطرق إلى قوة تأثير سلوك السعادة في الأداء داخل أروقة العمل، ومنها دراسات عدة، أظهرت أنه كلما كان الإنسان سعيداً في بيئة العمل، كان أكثر إنتاجية وأفضل أداء.

وتنبع أهمية التوقف عند مقاييس السعادة في العمل، من أن الناس تُمضي جُلّ حياتها في الوظيفة، وهي مورد الدخل الرئيس لمعظم القوى البشرية حول العالم.

وبحسب التقرير العالمي لسياسات السعادة، الصادر في الحوار العالمي للسعادة، المنعقد بالإمارات في فبراير 2018، فإن «الرضا عن الدخل المالي»، يأتي في مقدم ثلاثة أسباب رئيسة، تجعل المرء سعيداً.

ليس هذا فحسب، بل إنه حتى حينما سئل الناس عشوائياً عبر هواتفهم، عن مدى سعادتهم في الأنشطة التي كانوا يمارسونها في تلك اللحظة، جاءت الوظيفة التي يتقاضون عليها أجراً في أدنى مراتب السعادة، وذلك أدنى من نحو 39 نشاطاً آخر، باستثناء أوقات المرض، بحسب دراسة الباحثين برايسون وماكيرون عام 2016!

والسعادة أمر في غاية الأهمية، ويؤكد ذلك أيضاً مؤشرات الربحية في «أفضل مئة شركة يتطلع الناس إلى العمل بها في أمريكا»، فقد حققت تلك أرباحاً أعلى من نظيراتها بنسبة 50 في المئة، وذلك على مدى خمسة وعشرين عاماً، بحسب دراسة إدمانز عام 2011. وهو مؤشر يستحق التأمل.

بعد كل هذا، يأتي شخص ليستغرب، لماذا أصبح علماء الإدارة وعلم النفس يدرسون تأثير السعادة في سلوكيات الناس، وينسى هؤلاء أن مقياس السعادة، بحد ذاته، قد تطور إحصائياً، بعد أن طُبق في شتى بقاع المعمورة، فاكتسبت مقاييسه «مصداقية» و«موثوقية» إحصائية، ومن يعرف هذين المصطلحين، سيدرك أهمية تلك المقاييس، ودقتها في قياس مشاعر السعادة.

وعليه، فإن الشركات والجهات العامة مطالبة بدراسة مدى سعادة موظفيها، وعلاقة ذلك بعوامل عدة، منها الإنتاجية، أو الرغبة في الاستمرار بالعمل «retention»، أو النمط القيادي المتبع، فقد وجدت في دراستي ما يؤكد أنه حينما يغير القيادي من أساليبه.

ويتخلى مطلقاً عن السلبي منها، مثل أن يعامل مرؤوسيه بالمسطرة والقلم، وينسى الهدف الأساسي، وهو الإنتاجية، وليس بصمة الحضور والانصراف، وما شابه من شكليات، أو يتخلى عن عادته في تقريب المتقاعسين في عملهم، أو «المطبلين» والمتزلفين، ويقصي المهنيين المتفانين بشهادة الجميع. ثم يأتي بعد ذلك المسؤول ويستغرب، لماذا تخيم أجواء التعاسة على المرؤوسين!

الخلاصة أن السعادة لم تعد «هلاميات»، بل لها «ترمومتر»، يمكن أن نقيس من خلاله سعادة من حولنا.