عبد الحميد السيد.. ستة عقود من الإبداع الموسيقي الأصيل

فجع الوسط الفني والموسيقي في الكويت والخليج والوطن العربي، في يوم الجمعة الموافق للحادي والعشرين من مارس عام 2014، بوفاة الفنان الكويتي الكبير عبد الحميد السيد. وتشاء الأقدار أن تكون منيته في القاهرة، قلعة الفن الأولى في العالم العربي، والمدينة التي درس بها وعشقها، وتردد عليها وأحب مطربيها وملحنيها الكبار، منذ سنوات صباه وشبابه.

وبرحيله، فقدت الكويت واحداً من ركائز نهضتها الموسيقية، وعموداً من أعمدة ازدهار فنها، وأحد الفنانين الرواد الذين أسسوا مجدها الغنائي، إلى جانب العمالقة عوض الدوخي وسعود الراشد وغريد الشاطئ وشادي الخليج وصالح الحريبي. إذ لم يكن الراحل مجرد مؤدٍ للأغاني، وإنما كان ملحناً فذاً، شدى بألحانه كبار المطربين الكويتيين والعرب. كما كان أحد الفرسان العاشقين للتراث والمبدعين في أدائه وتجديده وحفظه وتسجيله.

وأكبر دليل على ذلك، قيام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، بتكريم السيد خلال الدورة الأولى لملتقى التراث الخليجي المنعقدة في الكويت، في أبريل 2012، وإشادة رئيسه الدكتور علي اليوحة بدوره في حفظ تراث الوطن، قائلاً: إن «تكريمنا له اليوم، إنما هو تكريم لكل من عاصروه من رواد هذا الفن الجميل في منطقة الخليج العربي بكاملها، فهم في حزمة واحدة، يكمل بعضها البعض، وهم الذين أثبتوا بمواهبهم المتميزة، وذائقتهم الفنية الرفيعة، ومرجعيتهم الثرية، وتجاربهم الخلاقة، أنهم بحق فنانون متألقون، وجديرون بمصاحبة العود، والترجمة على أوتاره أرق الألحان وأجمل المعزوفات»، مضيفاً: «لا مستقبل لأمة لا تعير تراثها الخاص الأهمية التي يستحقها، ولا وجود لمن لا يعطي موروثه الثقافي ما ينبغي من اهتمام ورعاية وتحصين».

كان أول عهدي بالتعرف إلى صوت السيد، في أوائل ستينيات القرن العشرين، من خلال ما كانت تبثه إذاعة الكويت من أغانٍ لمطربين خليجيين. كان إرسال هذه الإذاعة قوياً، ويصلنا بوضوح عبر أجهزة الترانزستور، فوجدنا في ما كانت تقدمه تعويضاً جميلاً لما دأبنا على سماعه من أغنيات مصرية، من إذاعتي القاهرة وصوت العرب.

وهكذا عشقنا صوته وأداءه، خصوصاً في أغنية «صد عني ومال»، مثلما عشقنا أصوات زملائه في تلك الحقبة، ثم زاد عشقنا له، حينما رأينا صورته من خلال بث تلفزيون الكويت، الذي كنا نلتقطه صيفاً فقط، إذ وجدناه إنساناً ذا ملامح هادئة، يغني بلا تكلف أو تصنع، ولا يجد غضاضة في مرافقة الفنانين الجدد بالعزف على العود.

وُلد عبد الحميد السيد هاشم السيد عبد الوهاب الحنيان، الشهير بعبد الحميد السيد، بمدينة الكويت في عام 1938، ابناً لوالده الذي كان يعمل في التدريس بمدرسة الجهراء، ثم نقل منها إلى المدرسة المباركية، فكان ممن تخرّج على يديه العديد من وجهاء وأعيان الكويت.

وفي سنوات نشأته الأولى، كان عبد الحميد السيد طفلاً شقياً، لكن دون أن تتسبب شقاوته في متاعب أو تخريب للآخرين، ودون أن يتعارك مع أطفال الحي أو يشاكسهم، على حد قول الناقد والباحث صالح الغريب، الذي وثّق سيرة فناننا، من خلال 3 مقالات نشرها في صحيفة كويتية في يوليو 2014.

ويخبرنا الغريب أن السيد كان يلعب في الفريج مع البنات والصبيان، ويغني مع البنات «هيلة يا رمانة»، وهي الأغنية الشعبية التي طورها لحناً، وأداها في ما بعد، من كلمات الشاعر علي الربعي (على الرغم من تردده في بداية الأمر بسبب اللون الراقص للعمل، ناهيك عن طبيعته الخاصة بالأطفال).

كما يخبرنا أن السيد تعرض في طفولته إلى حادثتين كادتا أن توديا بحياته، الأولى عندما سقط من على {الجالبوت} في البحر وغرق، وتم إنقاذه بعدما فقد وعيه، وشرب كمية من الماء المالح، والثانية عندما سقطت عليه أكياس السكر، فأغمي عليه فترة طويلة.

حينما بلغ التاسعة ألحقه والده المحافظ بالمعهد الديني، لأن المعهد كان وقتذاك يصرف لكل طالب إعانة شهرية مقدارها 40 روبية. ويبدو أن السيد اضطر للالتحاق بالمعهد، نزولاً عند رغبة والده فقط، بدليل أنه هجرها بعد عشرين يوماً، كي يلتحق بمدرسة الروضة، التي انتقل منها في عام 1949 إلى المدرسة الأحمدية. غير أن وجوده في الأحمدية لم يدم سوى عام واحد، حيث عاد في عام 1950 إلى المعهد الديني، استجابة لرغبة والده، على ما يبدو.

أمضى صاحبنا في المعهد الديني أربع سنوات من عمره، برز خلالها في تلاوة القرآن بصوت رخيم، وتعلم أثناءها أصول التجويد، على يد معلمه الشيخ أحمد البحيري، ما أهّله لتلاوة القرآن الكريم في بعض المساجد.

وإبان هذه الفترة من حياته، استحسن مدير إذاعة الكويت الشيخ عبد الله النوري صوت السيد، وطريقة تلاوته للقرآن، فاستأذن من والده أن يسمح له بتلاوة القرآن من إذاعة الكويت، مقابل 150 روبية شهرياً. وهكذا دخل السيد الإذاعة كقارئ، وبقي فيها من عام 1952 إلى 1958 يرتل القرآن، وارتفع راتبه تدريجياً من 150 إلى 300 روبية. وإبان ذلك، مارس أعمالاً أخرى، مثل عمله كاتباً في الجمارك خلال عام 1955.

المنعطف الأبرز في مسيرة السيد، كان في أواخر الخمسينيات، حينما التحق للعمل كموظف في وزارة الشؤون الاجتماعية، حيث حظي هناك باهتمام ورعاية اثنين من كبار موظفيها العاشقين للفنون، وهما: حمد عيسى الرجيب ومحمد النشمى، اللذين دفعاه في عام 1958 للانخراط في أنشطة مركز الفنون الشعبية، وهو مركز كان قد تأسس في سنة 1956، بترتيب ودعم وتشجيع من قبل مدير دائرة الشؤون الاجتماعية والعمل آنذاك، الأستاذ الفنان حمد الرجيب.

في هذا المركز وجد السيد ضالته، وتعرف فيه إلى ثلة من فناني بلاده الكبار، مثل سعود الراشد وأحمد الزنجباري وأحمد باقر وشادي الخليج ومحمد التتان، الذين قابلوه بالترحيب والتشجيع، بل عايش أجواء فنية لم يعتدها، فاطلع على التراث الشعبي، من خلال أشرطة التسجيلات القديمة والحديثة، ومارس كتابة وقراءة النوتة الموسيقية، وشارك غيره في العزف على العود والكمان والطار، وغنّى أمامهم شيئاً من أغاني أم كلثوم، وانخرط في أعمال اللجنة التي كان يترأسها الرجيب، وتضم مجموعة من الفنانين والعازفين والأدباء والمؤرخين، للارتقاء بالفن الكويتي وتطويره، وحفظ التراث الموسيقي.

قلنا إن السيد وجد ضالته في ذلك المركز، لأنه كان وقتذاك قد تتلمذ على يد الفنان محمد حسن صالح، وتعلم منه قواعد الموسيقى والنوتة وغناء الموشحات، وتعلم العزف على العود بمجهوده الشخصي، وصار مولعاً بأغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب.. يسمعها من أسطوانات يشتريها من دكان عبد الرسول بسوق الحمام، ثم يرددها ويعزفها، ويسهر معها حتى الصباح في غرفة مغلقة بعيدة عن والده، الذي لم يكن محبذاً لانشغال ابنه بالطرب.

ويبدو أن خشيته من غضب والده، معطوفاً على المعارف الدينية التي تشربها إبان دراسته في المعهد الديني، ورهبته من الانتقال من قارئ للقرآن، إلى مطرب عاطفي دفعة واحدة، جعله أسيراً لبعض الوقت للغناء الديني والموشحات الدينية، بمعنى أنه لم يجرؤ علناً ومباشرة على الانتقال للغناء العاطفي، وإنما تطلب منه الأمر التدرج. والجدير بالذكر هنا، أن الشاعر الكويتي أحمد مشاري العدواني، الذي كان عاشقاً لصوت السيد، ومهتماً بالمواهب الغنائية الجديدة، استكثر عليه أن يحبس نفسه في اللون الديني، فبدأ معه محاولات إقناع متدرجة.

ودليلنا هو أن السيد بدأ مشواره مع الغناء بالموشح الديني «صلاة دوام»، من كلمات عبد الرحيم المتيم، ثم انتقل من الموشح الديني إلى أغانٍ وصفية، تخاطب الطبيعة والبحر والطيور والورود، مثل أغنية «يا طير»، من شعر أحمد العدواني، وأغنية «حنين الموج»، التي غناها من كلمات الشاعر منصور الخرقاوي، ومن اللون الوصفي، انتقل إلى اللون الوطني، فغنى أنشودة «مهد الرجولة»، من ألحانه وكلمات علي السبتي، ثم غنى «بلدي المحبوب» و«تمت الفرحة» و«أرض المودة».

وأخيراً، انتقل إلى اللون العاطفي، فغنى «الحلو سباني»، من ألحانه وكلمات منصور الخرقاوي، وأتبعها بأغنية «صد عني ومال»، من ألحانه وكلمات الشاعر الدكتور يعقوب الغنيم، وهما أغنيتان أداهما في أولى حفلاته الغنائية الجماهيرية عام 1963، من على مسرح سينما الأندلس.

هذا الفتى الخجول الانطوائي، الذي تردد طويلاً في غناء اللون العاطفي، هو نفسه الذي سيكبر وسيشنف الآذان بأعذب الألحان العاطفية، ثم يبتعث في أواخر عام 1967 إلى القاهرة، لدراسة الثانوية الموسيقية، فينجزها، ويحصل بعدها على بكالوريوس المعهد العالي للموسيقى العربية في 1974، وسيعود ليأخذ على عاتقه مهمة نقل الأنغام الكويتية إلى خارج حدود الكويت، من خلال التلحين لأصوات مصرية ولبنانية ومغربية وعراقية. حيث كانت البداية مع العندليب، الذي لحن له السيد في عام 1965 أغنية «يا هلي.. يكفي ملامي والعتاب»، من كلمات الشاعر وليد جعفر، فكان العمل ناجحاً بكل المقاييس، وحظي بانتشار واسع.

ثم لحن للمطربة فايزة أحمد أغنية «ليش الحبيب»، من كلمات عبد الله العبد اللطيف العثمان، ولحن لهيام يونس أغنيتها الخالدة «يا من يسلم لي على الغالي»، من كلمات بدر الجاسر، ولحن لوديع الصافي أغنية «ياهلي ردوا السلام»، من كلمات خالد العياف، ولحن للمطربة المغربية غيتا أغنية «شرع الهوى»، من كلمات يوسف ناصر، ولحن لكارم محمود أغنية «شافت عيوني الجميلة»، من كلمات يوسف ناصر. كما لحن لمحرم فؤاد وشريفة فاضل، وللعراقية مائدة نزهت وغيرهم.

من أغانيه العاطفية الأولى أيضاً، أغنية «خلي الهوى يا للي عليك الهوى دار»، التي انتقاها من ديوان الشاعر مرشد البذال، ولحنها لنفسه، وصار غناؤها ممكناً على إيقاعات خيالي وعاشوري وقادري.

وخلال مشواره الممتد إلى ستة عقود، غنى السيد بنفسه ومن ألحانه أو ألحان غيره، مجموعة من الأعمال العاطفية والتراثية المطورة، التي راح الفنانون الشباب يغنونها في حفلات المعهد العالي للفنون الموسيقية، وأنشطة فرقة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وفي المناسبات الأخرى، ومنها على سبيل المثال أغنيات: «متى تعود»، «يا الله السلامة»، «ودع الذكرى»، «يا جار»، «والله غالي»، «صورة»، «ألا يا دان»، «جزى الله منهو جازاني» (سجلها في القاهرة بمصاحبة فرقة الحفناوي الموسيقية)، «يا للي غرامي تهواني وأهواك» (من ألحان عبد الرحمن البعيجان وكلمات خليفة العبد الله الخليفة الصباح)، ناهيك عن الأغاني التي أشرنا إليها آنفاً.

توقف فناننا عن الغناء لفترة، مبرراً ذلك بعدم وجود نصوص جيدة للتلحين والغناء، لكنه عاد إلى نشاطه الغنائي في عقد الثمانينيات، على شكل سهرات منوعة في التلفزيون، من إخراج أمين الحاج متقي، ومنها سهرة قدم فيها أغنية «غيرتي»، من ألحانه وكلمات حبيب فاضل، وأغنية «وين على الله»، من كلمات عبد اللطيف البناي، وغيرهما.

وفي عام 1983، سجل أغنية «كنز الحنان»، وأغنية «أنت أحلامي»، وأتبعهما في عام 1985 بأغنية «حديث الصمت»، من كلمات عدنان الشايجي. ثم عاد بعد ذلك للغناء الديني، من خلال أغنيتي «يا عالم الأسرار» و«بسم الخالق».

يقول الباحث صالح الغريب (مصدر سابق)، إن صوت وأسلوب غناء السيد، لفتا انتباه الموسيقار الكبير رياض السنباطي، حينما كان صاحبنا يسجل في القاهرة أغنيته الجميلة «يا للي شغلت بالي»، من ألحانه وكلمات بدر جاسر العياف، فأثنى السنباطي على صوته وأحب اللحن.

ويخبرنا أيضاً أن عبد الحليم حافظ كان مسروراً من أغنية «يا هلي»، وسعيداً بغنائها من ألحان السيد، فكان كلما التقاه في مصر، يقدمه إلى زملائه من الفنانين والملحنين بقوله: «أهو ده اللي لحن لي أغنية يا هلي الكويتية»، على نحو ما حدث في عام 1973، حينما قدمه العندليب للموسيقار فريد الأطرش، ثم في عام 1975، عندما قدمه للموسيقار بليغ حمدي.

ويضيف الباحث الغريب أن العندليب طلب من السيد لحناً آخر كي يغنيه، فسارع الأخير إلى إعداد لحن لأغنية كتبها الشاعر الكويتي محمد المحروس، بعنوان «يا اللي ظلمت قلبي»، لكن العمل لم يشهد النور، بسبب انقطاع الاتصال بين الطرفين، بحسب قوله.