الشارقة للتراث.. إعادة كتابة إنسانية

يقف «معهد الشارقة للتراث» صرحاً ثقافياً، يعيد تشكيل التراث قوة معرفية واجتماعية وسياسية، وقد صاغ صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، برؤاه المعرفية العميقة، العلاقة بين الإنسان والزمن، والمجتمع والمكان، والثقافة والهوية، وأصدر المرسوم الأميري رقم (70) لعام 2014 لتأسيس المعهد، ليصبح التراث جزءاً جوهرياً من المشروع الثقافي والحضاري في الشارقة.

بالنسبة لي، ومنذ لحظة تأسيسه، أرى معهد الشارقة للتراث جامعة عالمية كبرى، تجمع بين التوثيق والتحليل والإبداع والتعليم، وتوظيف التراث في بناء الوعي الجمعي، وتعزيز الهوية، وتفعيل الحوار بين الثقافات، حيث الاهتمام بالتراث يأخذ في المعهد مساحة أوسع، تشمل اللغة، والموسيقى، والفنون الشعبية، والحِرف التقليدية، والحكايات الشفوية، والعادات التي تُشكّل نسيج الحياة اليومية.

ولم يكتفِ المعهد بجمع المخطوطات أو توثيق العمارة القديمة، أو إطلاق المبادرات والمشاريع، بل أسس مدرسة فكرية حقيقية تُعيد قراءة التراث، من أول كلمة في النصوص والرموز والأساطير والموروثات الشعبية التقليدية، وحتى آخر حرف فيها.

أخذ المعهد على عاتقه مهمة شاملة، تنسجم تماماً مع أفضل ما في «فلسفة التراث» من معنى ومغزى، فكان التركيز على رسم وتصميم وتشكيل الوعي الثقافي، وجعل التراث مشروعاً أكاديمياً ثقافياً اجتماعياً عالمياً، وربطه بمحركات التنمية المستدامة، تُبحث فيه الحكايات كونها نصوصاً فلسفية، وتُحلل فيه الذاكرة كونها مصدراً للمعرفة، وتُدرّس فيه الحرف كونها علوماً اجتماعية واقتصادية، وتُدار فيه المهرجانات كونها منابر لحوار الحضارات، ويتم تصميم تطبيقات الواقع المعزز لاستعادة الحياة في المدن القديمة، فأصبح معهد الشارقة للتراث جامعة تدرس الفلسفة من خلال التراث، وتعلم الأجيال كيف يقرأون الزمن في كل مرحلة.

أثناء زياراتي للمعهد أشعر دائماً أنني أدخل فضاء ثقافياً مفتوحاً، لا يقيده زمان ولا مكان، بل يتجاوزهما، ليعيش التراث في قلب كل تلميذ، وكل مهتم، وكل باحث.

كل مرفق فيه يُعيد تعريف التراث كقوة تشكيلية للفكر والسلوك.

لا أحتاج الاستناد إلى المختصين بالتراث والثقافة لقراءة النشاطات والإنجازات التي حققها المعهد، فالصديق الدكتور عبد العزيز المسلّم، رئيس المعهد خبير ومؤرخ وأكاديمي ومفكر وفيلسوف، وهو صاحب رؤية راسخة أن التراث مادة خام للتعليم، وحقل للبحث، ومساحة للتفاعل.

ومن خلال الإدارة الأكاديمية التي يترأسها تحققت خطوات كبيرة في تحويل المعهد إلى منصة بحثية تدريبية، تُعيد إنتاج الخبرات المتخصصة في التراث، عبر برامج تُدرّب الباحثين على جمع التراث وإدارته وتحليله ونقله للأجيال القادمة.

وإضافة إلى جميع المبادرات والنشاطات، التي يشرف عليها الدكتور المسلّم شخصياً، فالجميع يعلم حجم «أيام الشارقة التراثية» التي أصبحت وجهة عالمية للتراث، فيقدم المعهد من خلالها نموذجاً متكاملاً لكيفية تحول التراث إلى منصة ثقافية حية.

بلغ عدد الكتب التي أصدرها المعهد ما يزيد على الألف تقريباً، وخلال عقد تحول التراث من مجرد موروث شفوي إلى نص مُدرَّس ومتاح للتحليل، ما جعل المعهد ينمو ويتطور بسرعة، ويكسب الاعتراف الدولي، خاصة من اليونيسكو، التي وضعته ضمن شبكة مراكز القدرة العالمية في التراث الثقافي، وهذا يظهر أن التراث عندما يدار بوعي يتجاوز المحلية، ليصبح مصدراً للحوار العالمي، ومنصة للتعاون الحضاري، كما يظهر المعهد من خلال مشاركاته في المؤتمرات الدولية، وورش العمل المشتركة، وتبادل الباحثين والخبرات مع دول العالم.

التجربة الإماراتية، كما يراها معهد الشارقة للتراث، تُظهر أن التراث الإماراتي لا يُناقض الحداثة، بل يُغذيها، وأنه لا يضعف أمام التطور الرقمي، بل يتناغم معه ويحاكيه، فيقدم الشارقة للتراث نموذجاً ناضجاً لهذا المفهوم، حيث يدمج بين الحفظ والتفاعل، بين البحث والتطبيق، بين الأصالة والابتكار، ليصبح التراث أداة لبناء المستقبل، وسردية مفتوحة، يعاد تفسيرها باستمرار.

الشارقة للتراث، من وجهة نظري، هو أكبر دليل على أن التراث يمكن أن يكون قوة مؤثرة في بناء الحضارة المعاصرة، بوصفه منصة للتفكير في المستقبل، لذا يحق لنا أن نهنئ أنفسنا، بصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي، حفظه الله، وأن نهنئ رئيس المعهد الدكتور عبد العزيز المسلّم على هذه الجهود العظيمة، التي تعيد تعريف التراث كونه صرحاً فكرياً وعلمياً واجتماعياً، وعلى أن معهد الشارقة للتراث قد أصبح نموذجاً تحتذي به المؤسسات الثقافية المرموقة في العالم العربي والعالم.