تشويه لمسار وانحراف لن يدوم

مثلت مسيرة اليمين القومي والمتطرف بوسط لندن السبت الماضي، والتي شارك فيها قرابة الـ 200 ألف شخص، تحولاً كبيراً في المشهد السياسي البريطاني، وتعد هذه المسيرة التي نظمها الناشط اليميني المتطرف المناهض للهجرة، تومي روبنسون، من أكبر مظاهرات اليمين في التاريخ الحديث لبريطانيا. وقال روبنسون أمام الحشد: «الغالبية الصامتة لن تبقى صامتة بعد الآن. اليوم يمثل بداية ثورة ثقافية».

وتم تقديم المسيرة بأنها من أجل «حرية التعبير» غير أن المراقبين يؤكدون أنها أكبر تظاهرة لليمين المتطرف خلال العقود الأخيرة، وهي موجهة أساساً ضد سياسة الهجرة للحكومة البريطانية.

وشارك في مسيرة اليمين المتطرف نشطاء من دول عدة بينهم الأمريكي إيلون ماسك والفرنسي المتطرف إيريك زيمور.

ونددت الحكومة البريطانية الاثنين بما وصفته «الخطاب الخطير والتحريضي» الذي استخدمه الملياردير الأمريكي إيلون ماسك خلال تظاهرة لندن، وقال ماسك الذي تحدث عبر الفيديو خلال هذه التظاهرة «سواء اخترتم العنف أم لا، سيأتيكم العنف، إما أن تقاوموا أو تقتلوا»، واعتبرت الحكومة البريطانية أن «خطاب التحريض ليس من تقاليد بريطانيا».

وكشف استطلاع الرأي الذي نشر الاثنين أن حزب الإصلاح البريطاني اليميني أصبح الحزب الأكثر شعبية في المملكة المتحدة للمرة الأولى، حيث يتقدم على كل من الحزب العمالي الحاكم وحزب المحافظين، وهي سابقة لم يعرفها المشهد السياسي البريطاني منذ عقود، بما يؤشر إلى أن اليمين المتطرف في بريطانيا يستعد لاكتساح الحكم، إسوة بما جرى ويجري في عدد من دول الغرب الليبرالي وخصوصاً أوروبا.

وتتصدر أحزاب اليمين واليمين المتطرف في عدد من الدول الأوروبية النافذة، ومنها فرنسا وبريطانيا، نوايا التصويت، بما يوفر أرضية ملائمة لانقلاب جيوسياسي فعلي في المشاهد السياسية لهذه الدول وفي واقع العلاقات الدولية كذلك.

وإن التجمع الضخم الذي شهدته لندن نهاية الأسبوع الماضي وضم أكثر من مائتي ألف شخص من مناصري اليمين المتطرف ومن مختلف البلدان، يؤكد أن المد اليميني والقومي الشعبوي بدأ يعلن عن نفسه بديلاً جاهزاً للحكم، وهو توجه فعلي تؤكده الانتخابات واستطلاعات الرأي في عدد من الدول.

ويعتبر تنامي اليمين الشعبوي والقومي المتطرف مقدمة موضوعية «لتجمع أممي» تتقاطع أهدافه الأيديولوجية والسياسية ولا تتوافق بالضرورة مصالحه الآنية لثلاثة أسباب على الأقل، أولها أن مناخ التنافس يتميز بوحشية وشراسة المنظومة الليبرالية «المتحررة» من كل القيود والعوائق القانونية والأخلاقية، وثانيها، أن هذه «الأممية اليمينية» تمثل انحرافاً خطيراً بمسار التطور للمنظومة الليبرالية لكونها محكومة بمنظومة قيمية وأيديولوجية في قطيعة تامة مع تقاليد الفكر الليبرالي «الحر»، وثالثاً وأساساً، هي رد فعل منطقي لانحراف آخر في عدد من دول الجنوب، وهو تنامي التطرف والإرهاب وطغيان الفكر الماضوي العقيم أساساً لجماعات «الإخوان» ومختلف تفريعاتهم وغيرهم الكثير.

وإذا كان تناقض الأمميات في القرن الماضي كالأممية الاشتراكية ومثيلتها الليبرالية يترجم في نزاعات بين الدول بما يؤثر على واقع العلاقات الدولية سلبياً أم إيجابياً، فإن أمميات العصر الحالي تستهدف تفكيك المجتمعات وتقويض الدول، وهي نقطة يشترك فيها التطرف اليميني والتطرف الإرهابي «الإخواني» تحديداً.

وهذه الحدية في السياسات والمواقف تدفع إلى القول إن المسار الحالي في تطور الفكر السياسي في مختلف دول العالم يكتسي طابعاً وقتياً ولا يمكن له الدوام والاستقرار.

وإن البديل المعقول لأيديولوجية الدمار هو تنامي فكر وطني تنافسي يقوم على منظومة قيمية وقانونية متوازنة وتقطع مع سياسة تعدد المكاييل، وتبني العلاقات بين الدول والمجتمعات على شراكات اقتصادية وسياسية وثقافية استراتيجية تدوم ولا تغبن حقوق الشعوب في التطور والنماء، وتقطع مع عقلية الموت والدمار والعنف.