مودي ينتقم من واشنطن

ليس هناك أسوأ في العلاقات الدولية من القرارات الارتجالية والمتسرعة. فكما أن قرار واشنطن التعامل بقسوة مع نيودلهي حول التعريفات الجمركية كان خاطئاً ومتهوراً، فإن رد الفعل الهندي، من وجهة نظرنا، كان هو الآخر متسرعاً ولا يتسق مع ما عُرف عن السياسة الهندية من صبر ودهاء وتأنٍ.

على خلفية هذا المشهد المتوتر أخيراً بين نيودلهي وواشنطن، ذهب رئيس الحكومة الهندية، ناريندرا مودي، إلى الصين للمشاركة في قمة منظمة شتغهاي للتعاون التي استضافتها مدينة تيانجين الصينية مؤخراً، هو الذي لم يزر الصين منذ عام 2018، وخاضت بلاده اشتباكات عسكرية مع الصين في عام 2020 إلى جانب تنافس استراتيجي وجيوسياسي مرير في المحيطين الهندي والهادي.

ويبدو جلياً أن مودي بقراره هذا لم يرد فقط المشاركة شخصياً في القمة المذكورة فحسب، وإنما أيضاً الاجتماع بنظيريه الصيني شي جينبينغ والروسي فيلاديمير بوتين، وربما بدكتاتور كوريا الشمالية «كيم جونغ أون» والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وذلك من أجل إرسال إشارة إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مفادها أن ضغوطه على الهند سوف تسفر عن تحالف مضاد للولايات المتحدة، وعن مزيد من التقارب مع خصومه، وربما التمسك أكثر بشراء النفط الروسي الرخيص وبتجمع «بريكس» الذي يسعى ضمن أمور أخرى إلى إيجاد بديل للدولار الأمريكي كعملة رئيسية في المبادلات التجارية العالمية.

وبطبيعة الحال، فقد وجدت بكين في استضافتها لمودي وبوتين وكيم وبزشكيان، ومشاركة الثلاثي الأخير في أضخم استعراض للقوة العسكرية الصينية، أقامته بكين في ساحة «تيان إن مين» ببكين بمناسبة الذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، فرصة للقول إنها ليست وحدها في معركة التنافس والتصدي للمخططات الأمريكية، وإن دولاً كبيرة بمساحتها وسكانها ومواردها وقوتها النووية، أو دولاً أصغر، لكن بمزايا باليستية ونووية، تتحالف معها وتقف في الخندق نفسه، وإن منظمة شنغهاي للتعاون التي أسستها الصين وتقودها، هي منارة الاستقرار في عالم مضطرب، كما وجدتها فرصة لاستمالة الهند إلى عرينها، منتهزة خلافات الأخيرة التجارية مع واشنطن.

نعود للزعيم الهندي مودي، الذي لئن كسب أمام شعبه ورقتي رفض الرضوخ لإملاءات الغرب وضغوطه، والتمسك بالسيادة واستقلالية القرار الخارجي، فإنه يخسر حتماً صورة الهند كأكبر ديمقراطية تعددية في العالم، باصطفافه مع أنظمة غير ديمقراطية، وقد يخسر بالتالي علاقات بلاده المزدهرة مع شركائها الاقتصاديين الكبار في آسيا مثل تايوان وكوريا الجنوبية واليابان، ويضحي برصيد الهند عند الأوكرانيين. وبعبارة أخرى فإنه قد ينتصر وقتياً في معركته، لكنه سيخسر على المدى البعيد، ويعيد بلاده إلى حقبة ولت وزمن لا يترحم عليه الهنود كثيراً يوم أن كانت الهند أسيرة تحالفاتها مع المعسكر المعادي للغرب ومقيدة بنهج اشتراكي ضيع على الأمة الهندية الكثير من فرص الارتقاء والازدهار.

وفي اعتقادنا أن مودي يعلم ذلك جيداً، ولهذا فإن لقاءه مع جينبينغ على هامش قمة منظمة شنغهاي لم يسفر عن أي إعلان تحالفي أو شراكة استراتيجية، وإنما أسفر فقط ــ بحسب إعلان صيني ــ عن استئناف الرحلات الجوية المباشرة بين بلديهما، وإحياء المحادثات المجمدة بشأن الحدود المتنازع عليها، وإعادة إصدار التأشيرات السياحية، وتعزيز المبادلات التجارية، وهو ما يدعونا للقول إن الخلافات لا تزال قائمة بقوة والثقة بين الجانبين غير متوفرة بالشكل المطلوب، بدليل تخلف مودي عن حضور العرض العسكري الضخم في بكين، ومغادرته الصين مباشرة بعد أعمال قمة شنغهاي.

والحقيقة أن نيودلهي، حتى لو أرادت الارتماء في أحضان الصين كبديل لواشنطن، فإن عقبات هيكلية كبيرة تحول دون ذلك، فإلى جانب نزاعاتهما الحدودية والإقليمية الشائكة التي تلقي بثقلها على الثقة، هناك مسائل مثل رفض الهند القاطع لمبادرة الحزام والطريق الصينية بسبب الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني الذي يمر عبر الجزء الباكستاني من كشمير، وشكوك الهند في النوايا الصينية الخاصة بتعزيز قدرات باكستان العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية، وحذرها الشديد من التعاون تكنولوجياً مع الشركات الصينية بسبب مخاطر ذلك على الأمن القومي الهندي.

ونختتم بالإشارة إلى ما ورد على لسان بعض المحللين الهنود من بقايا زمن حركة عدم الانحياز ممن ثمنوا قرار مودي بالمشاركة شخصياً في قمة منظمة شنغهاي، واعتبروا خطوته تلك بمثابة استعادة للتوازن القديم في السياسة الخارجية الهندية، في إشارة مبطنة إلى اختلال تلك السياسات باندفاع الهند في السنوات الأخيرة نحو الولايات المتحدة على حساب بكين وموسكو، وقيام البلدين بالتعاون معاً في لجم الطموحات الصينية، واشتراكهما مع اليابان وأستراليا في الحلف الرباعي الأمني.