لماذا تنهض أمم وتسقط أخرى؟!

في أثينا القديمة، حين اجتمع الفلاسفة تحت أعمدة البارثينون، كان السؤال الأبرز: ماذا يعني أن تكون مواطناً؟ لم يكن الجواب سهلاً، لكنه كان واضحاً أن المواطنة ليست لقباً ورقياً أو ترفاً فكرياً، بل التزام ومسؤولية. ومنذ ذلك الحين، ظل هذا السؤال يرافق مسيرة البشرية، ليأخذ أبعاداً جديدة مع كل تحول سياسي واجتماعي.

اليوم، ونحن نعيش في عالم متشابك مليء بالتحديات، تتأكد حقيقة أن المواطنة ليست مجرد هوية وطنية على بطاقة رسمية، بل منظومة قيم تُترجم في سلوك الفرد ومشاركته في بناء المجتمع. فالمواطنة الإيجابية تعني أن تحب وطنك، ولكن الأهم أن تُثبت هذا الحب في تفاصيل حياتك: في عملك، وفي التزامك بالقانون، وفي دعمك لمشاريع التنمية، واستعدادك لأن تكون جزءاً من الحل لا المشكلة.

والفارق بين شعب يعيش المواطنة وشعب يفتقدها ليس تفصيلاً صغيراً، بل هو ما يحدد مصير الدول. فالشعوب التي ترسّخ في وجدانها أن المساواة والقانون يحميان الجميع، وأن المشاركة مسؤولية، والهوية جامعة، تستطيع أن تنهض وسط الأزمات وتواجه العواصف. وعلى العكس، حين يغيب هذا الشعور، كما رأينا في بعض البلدان التي مزقتها الحروب والانقسامات، تتحول الهوية إلى عبء، وتصبح الدولة مجرد جغرافيا بلا روح!

وغياب المواطنة في تلك الدول لم يكن مجرد نقص سياسي، بل كان الشرخ الذي سمح للتطرف والطائفية والانقسام أن يتغلغل.. حتى لم يعد يشعر المواطن أن الدولة له، فابتعد عنها أو اصطدم بها. وهنا تتجلى خطورة غياب هذا الشعور، فحين يغيب الإحساس بالمواطنة، تنهار جسور الثقة، ويصير المستقبل رهينة للفوضى.

في المقابل، تقدم دولة الإمارات للعالم نموذجاً ساطعاً ومثالاً فريداً في ترسيخ قيم المواطنة والهوية الوطنية الأصيلة... مواطنة لا تُقاس بجواز السفر، بل بالأثر الإيجابي الذي يتركه الإنسان حيثما كان. مواطنة تتسع لكل من اختار أن يعيش تحت سماء هذا الوطن، فيغدو شريكاً في التنمية، ومساهماً في البناء، وحارساً للقيم الأصيلة.

هذا النموذج لم يأتِ من فراغ، بل من فكر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، "حفظه الله"، الذي جعل من المواطنة الإيجابية أحد المحاور الرئيسة لبناء الدولة الحديثة. فالقيم الوطنية واضحة في خطابات سموّه التي تركز على: الاستثمار في الإنسان، وتقدير العمل والاجتهاد، وترسيخ التربية الأخلاقية، والحفاظ على الهوية الوطنية، وتعزيز المشاركة والمسؤولية المجتمعية، واحترام القانون، إلى جانب نشر ثقافة التسامح والتعددية. هذه الرسائل المتكررة لم تبقَ شعارات، بل تحولت إلى مرجعية فكرية وسلوكية توجه السلوك الفردي والجمعي في دولة الإمارات.

ولأن الهوية الوطنية لا تُبنى في الداخل فقط، بل تحتاج لمن يعززها ويُعرّف بها في الخارج، جاء دور وزارة الخارجية الإماراتية بقيادة سموّ الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان. فبفضل جهوده وفريقه، أصبحت الهوية الإماراتية تُعرّف في الخارج كما تُعاش في الداخل. وعبر الدبلوماسية الناعمة والمبادرات الإنسانية والثقافية، صارت الإمارات تُقدَّم للعالم لا كدولة غنية فقط، بل كدولة تحمل هوية راسخة، وهوية مواطن يؤمن بالسلام والعمل المشترك والإنجاز.

النموذج الإماراتي في المواطنة أثبت أن الانتماء لا يُختزل في وثيقة سفر، بل في الأثر الذي يتركه الإنسان... هنا، كل من يعيش تحت سماء الإمارات شريك في الحلم، مهما كان أصله أو لونه. قبل سنوات، سُئل موظف أجنبي بسيط عاش عقوداً في الإمارات: لماذا اخترت البقاء هنا كل هذه السنوات؟ فأجاب: "لأنني شعرت أني أنتمي، حتى دون أن أحمل جواز سفر".

هذه الشهادة البسيطة تختصر معنى المواطنة في دولة الإمارات.. شعور بالانتماء، التزام بالقيم، ومشاركة في الحلم. إنها ليست فقط قصة وطن، بل درس للعالم، أن المواطنة قيمة تبني الأمم، وأن الهوية الحقيقية لا تُفرض، بل تُعاش وتُمارس كل يوم.