تندلع بين الناس معارك كلامية طاحنة لأسباب عدة، منها أن بعضنا لا يحاول التغافل عن كثير من الحوارات التي يسمعها، فلا يترك شاردة ولا واردة إلا علق عليها، حتى يبدأ زملاؤه وأصدقاؤه، وربما أفراد أسرته بالنفور منه.
التغافل فضيلة يحاول من خلالها المستمع الفطن أن يتعمد التظاهر بالتغافل عما يتناهى إلى أسماعه من معلومات ليس ضعفاً ولا عجزاً، ولكن حكمة في التعامل مع الأحداث من حوله. ولذا روي عن الإمام أحمد بن حنبل وغيره أنه قال «نصف الحكمة في التغافل». وقال شبيب بن شيبة: إن الأريب العاقل هو الفطن المتغافل.
وعلى مر التاريخ، كان الحكماء يؤكدون أن الإنسان لا يمكن أن يعيش بسلام إن هو تصدى لكل كلمة أو موقف يمر به، فالتغافل في بعض المواقف يعد درعاً نفسية تحمي صاحبها من الاستنزاف اليومي. وأذكر أنني سألت ذات مرة أحد أشهر كتاب الأعمدة الصحافية في الوطن العربي، لماذا لا ترد على خصومك الذين يمطرونك بسهام النقد ليلاً ونهاراً؟ فقال: إذا رددت عليهم اشتهروا! هنا تذكرت قول الشاعر المتنبي:
لو كل كلب عوى ألقمته حجراً
لأصبح الصخر مثقالاً بدينار
وتغافل المستمعين ليس ضعفاً أو حماقة، ولكنه قرار شخصي محض نلجأ إليه لأنه يريحنا، ويدفع عنا أذى المواجهة، ويحافظ على مزاجنا.. كما أن التغافل يمنح الآخرين فرصة لتغيير سلوكهم، فلربما كانت تلك الكلمات الجارحة ليست سوى فلتات من اللسان سرعان ما سيندم عليها صاحبها، بعد أن يعود إليه رشده.. لكن المشكلة في التغافل تحدث حينما يُشعِر المرء المتحدثين أنه قد سمع مقالتهم أو إساءتهم ثم سكت.
هنا ربما يفهمها البعض بأنها إشارة تقبل لهذا السلوك، وهو ما قد يدفع إلى مزيد من التمادي مستقبلاً، ولذلك فإن الذكاء هنا يكمن في الموازنة بين متى نصمت ومتى نرد، بحيث يبقى التغافل أداة حكيمة لا سلبية مفرطة.
ومن محاسن التغافل أنه يجعل الفرد يخرج من دائرة اتهام البعض له بأنه ممن يعملون من الحبة قبة، كما نقول في المثل الشعبي الخليجي.. فهناك من الناس من لا ينتبه أن لديه عقدة النقد وكأنه أنيطت به مهمة انتقاد كل صغيرة وكبيرة من حوله، ولا يدري أن النقد الدائم يجلب المرارة والحسرة والألم.. ثم من قال إن كل ما نسمعه من حوارات يجب أن نبادر نحن بالتعليق عليها؟، لم لا نفسح المجال للآخرين لكي يدلوا بدلوهم، فنحن لا نحتكر الحكمة، ولا التجارب، بل ومن منا لا يخلو من العيوب، فنحن في أحيان كثيرة أحوج الناس إلى النصح والإرشاد، وربما النقد اللاذع.
نحن في زمن يجب أن ندرك فيه أهمية التغافل عن كثير مما نسمع، لتخفيف حدة الصراع، فالأصدقاء أحياناً يجب أن يغضوا الطرف عما يسمعونه من زلات رفقائهم، ويكفوا عن تضخيمها في عصر صار كل منا يحمل في جيبه هاتفاً ينقل إليه كل ما يجري في العالم بالصوت والصورة.. كما أننا في زمن يجب أن يتغافل فيه الآباء عن صغائر سلوكيات أبنائهم، كأن يقول لسان حال الزوجة: احمد الله أن والدك لم يَرَك تفعل كذا وكذا.. وهذا أسلوب في التربية يلجأ إليه لتقويم السلوك الإنساني أو ردعه.
التغافل أو التغابي عموماً سلوك حميد إذا ما استخدم في الوقت المناسب. والتغافل يأتي من الفعل غفل عن الشيء أي تركه إهمالاً من غير نسيان. ومن يرى في هذا السلوك حماقة أو ضعفاً نذكره بقول الشاعر:
ليس الغبي بسيد في قومه
لكن سيد قومه المتغابي!