الصدام قادم لا محالة

أعلن الرئيس الصيني، شي جينغ بينغ، خلال الاستعراض العسكري الضخم في بكين بداية الشهر، احتفالاً بالذكرى الـ80 لنهاية الحرب العالمية الثانية، وانتصار الصين على اليابان، أن بلاده تريد السلام، ولكنها تمتلك كل وسائل خوض الحرب من أجل مصالحها.

وكان صدى كلمة الرئيس الصيني في الغرب الليبرالي، وبخاصة الولايات المتحدة، كبيراً وحتى صادماً، رغم أن مساعي الصين في تطوير منظومتها العسكرية وتنويعها لم تكن خافية على أي طرف. والواقع أن خطاب الرئيس الصيني بالمناسبة وبمشاركة دولية غير مسبوقة وبحضور لافت للرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والكوري الشمالي، كيم جونغ أون، بالخصوص، دشن مرحلة جديدة في العلاقات الدولية، تكاد تقطع بالكامل مع منظومة ما بعد الحرب الكونية الثانية.

وكانت الحرب الثانية أفرزت تشكيل مشهد دولي ثنائي الأقطاب بالأساس، ويضم أولاً، دولاً ومجموعات تمتلك وسائل القوة الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية والسياسية والبحث العلمي، وأذرعه العسكرية، من جهة، حلف الناتو الذي يدافع عن مصالح الغرب الليبرالي، ومن الجهة المقابلة، حلف وارسو الذي يؤمن مصالح القطب الشرقي وأساساً، الاتحاد السوفييتي السابق. وضم مشهد ما بعد الحرب ثانياً، مجموعة دول ومجموعات شكلت مجموعات سياسية بالأساس، ولكنها لا تمتلك وسائل القوة التكنولوجية العسكرية والاقتصادية، ومن ذلك حركة دول عدم الانحياز.

ولعل من إيجابيات تلك المرحلة، تنامي العمل المشترك ومتعدد الأطراف، رغم اختلال موازين القوى وتخفي منطق القوة وراء منظومة قيمية وقانونية حققت بعض المكاسب رغم طغيان سياسة تعدد المكاييل، وأما السلبية الأساسية فهي طغيان مناخ الحرب الباردة بين القطبين الرئيسيين والذي فتح باب السباق نحو التسلح على مصراعيه.

واعتبر سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق انتصاراً نهائياً للمنظومة الليبرالية الغربية، وبداية النهاية لسقوط منظومة ما بعد الحرب الكونية الثانية، وكان من تداعيات ذلك، تراخي المجهود العسكري في أوروبا واتكالها بالكامل على الولايات المتحدة، ومن تداعيات سقوط جدار برلين، تنامي الشعور القومي لدى روسيا والصين بالتحديد، وتآكل القوى الوسطى بفعل التعاظم التدريجي لظاهرة الإرهاب بما فتح باب العودة التدريجية والخفية للحرب الباردة.

ومثلت عودة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض ضربة قاصمة لمنظومة ما بعد الحرب الكونية الثانية، إذ سجلت بداية ترك العمل بالتعاون متعدد الأطراف وسقوط القواعد المشتركة في التعامل، ما يعني بداية تهاوي المنظومة متعددة الأطراف، وخرجت القوّة من مكامنها وأعلنت ذاتها بديلاً عن العمل متعدد الأطراف، وسقط مع ترامب مفهوم الغرب التقليدي الموحد، ومن مظاهره فك الارتباط التدريجي بين أوروبا وأمريكا، وعودة الرأسمالية في أكثر مظاهرها توحشاً، وتنامي المد القومي الشعبوي، وظهر مفهوم الجنوب الشامل الذي محوره الأساسي الصين وروسيا اللذان يشتركان في رفض الخضوع إلى الغرب مع امتلاك وسائل القوّة التكنولوجية والعلمية والاقتصادية، وبخاصة الصين.

وإن تمكن الصين من أسباب القوة الاقتصادية والعسكرية والعلمية هو ما أعطى زخماً لخطابها الموجه إلى دول الغرب الليبرالي وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بالتوازي مع تطوير شراكاتها الاقتصادية والعلمية مع عدد من دول الجنوب الشامل، وكذلك بتمتين علاقاتها المتنوعة مع روسيا. وتعتبر الصين توجهاتها الجديدة على المستوى الدولي ذات منحى مبدئي واستراتيجي يمكنها على المدييْن المتوسط والبعيد من تأمين قوتها الاقتصادية التي تؤهلها لأدوار الريادة دولياً، وهو ما لا تنظر إليه الإدارات الأمريكية المتعاقبة بعين الرضا.

إن الفكرة الأساسية للعقل الصيني هي أن التمكن من أسباب القوة وتنويع الشراكات مع دول الجنوب هي الضمانات الاستراتيجية لديمومة ريادتها الاقتصادية والعلمية في العالم، وفي مقابل الردع الصيني الاستراتيجي، وهي رؤية تتعارض مع الفكر الأمريكي الذي يقوم على التوظيف الفعلي للقوة من أجل تحقيق الأهداف والمصالح، وهو ما قد يجعل من التصادم مسألة وقت لا غير.