القرارات التي اتخذها ترامب بالسيطرة الفيدرالية الكاملة على واشنطن العاصمة رغم أنها لا تخلو من طابع حزبي وعرقي، فهي لا تنتهك الدستور ولا القوانين كما يزعم خصومه.. فترامب استدعى الحرس الوطني من ولايتين تعطيان أصواتهما للجمهوريين، واستدعى معهما الحرس الوطني لمدينة واشنطن لنشرهم بشوارع المدينة، ثم وضع الشرطة المحلية تحت سيطرة الحكومة الفيدرالية.. لكن شوارع العاصمة الأمريكية يجوبها اليوم من لا يقتصرون على الحرس الوطني، فقد صدرت الأوامر لتشاركهم عناصر تابعة لهيئة التحقيقات الفيدرالية، وأخرى تتبع وزارة الأمن الداخلي. أكثر من ذلك، تستعد وزارة الدفاع لعسكرة المدينة عبر إنشاء ما أسمته وحدة الاستجابة السريعة لنشرها في غضون ساعة، ووظيفتها قمع ما أسمته الاضطرابات والاحتجاجات!
واشنطن العاصمة مدينة لا ولاية، وشيدت أصلاً لتكون العاصمة الفيدرالية ولا شيء آخر.. لذلك جعلها الدستور عمداً غير تابعة لأية ولاية لئلا تخضع لضغوطها وتظل محايدة فيما بينها. وسكان المدينة لهم حق التصويت في انتخابات الرئاسة دون الكونغرس الذي يمثلهم في مجلسيه مراقبين منتخبين، ليس لهم حق التصويت على مشروعات القوانين.. والمدينة من معاقل الحزب الديمقراطي، فلأن نسبة معتبرة من السكان من السود والأقليات أخرى، فإن أصوات المدينة تذهب للديمقراطيين بنسبة تصل إلى 91%.
أما السود فيمثلون ما يتجاوز 40% من سكان المدينة.. ووجودهم الكثيف بالمدينة له أسبابه التاريخية، فالقوانين التي حظرت التمييز العنصري منذ الستينيات كلها قوانين فيدرالية أجبرت حكومات الولايات على الانصياع لإنهاء الفصل العنصري والتمييز.. لذلك اعتبر السود الحكومة الفيدرالية ملاذاً ضد الولايات التي كانت ولا تزال تخترع إجراءات لحرمان السود من حقوقهم، ومن هنا، كان من الطبيعي أن يختار الكثيرون منهم الالتحاق بوظائف بالحكومة الفيدرالية ويعيشون بالمدينة التي فيها وظائفهم. وليس أكثر في أمريكا من الصور النمطية العنصرية تجاه السود، وعلى عكس الصورة الكذوبة التي تزعم زوراً أن الأسود مشروع مجرم حتى يثبت العكس، فإن السود أكثر من يعانون من الجريمة وأول ضحاياها.
والحقيقة أنه لا يجوز غض الطرف عن أن الكثافة المرتفعة للسود بين سكان المدينة سبب جوهري لاستهدافها من جانب إدارة ترامب، فرموز الإدارة بمن فيهم الرئيس نفسه، يتبنون علناً الصورة النمطية السلبية التي تربط السود بالجريمة.. لكن إجراءات ترامب من الناحية الفنية لا تنتهك الدستور ولا القوانين، فقانون الحكم المحلي لعام 1973 الذي يقنن أوضاع العاصمة منح الرئيس الحق في أن يضع المدينة تحت سيطرة الحكومة الفيدرالية في حالات الطوارئ وهو بالضبط ما فعله ترامب. ووفق تصريحات ترامب، فإن مبرر إعلان الطوارئ هو ضرورة القضاء على الجريمة المتفشية بالمدينة وتخليصها من المشردين الذين يفترشون الشوارع.
وأضاف الرئيس أن معدلات الجريمة بالمدينة وصلت لمستويات أعلى من دولتي كولومبيا والمكسيك، مما اعتبره عاراً على أمريكا.
لكن الإحصاءات الحكومية تدحض رواية الرئيس، فمعدلات الجريمة بالمدينة وصلت اليوم لأدنى مستوياتها منذ عام 2011.. وقضية المشردين مسألة معقدة لا علاقة لها بالإجرام، إذ هي أحد تجليات الاتساع الهائل في الفجوة بين الفقراء والأثرياء في المجتمع.
أكثر من ذلك فإن نسبة مرتفعة من أولئك المشردين تأتي من المحاربين السابقين الذين خاضوا الحرب في أفغانستان والعراق وغيرهما، ولكنهم سقطوا في براثن الفقر حتى صاروا بلا مأوى، وهو أمر يحتاج لعلاج اجتماعي لا قمعي تتولاه قوات تمت عسكرة سلاحها وينطوي عملها على تجريم الفقر. وترامب أعلن صراحة أنه ينوي تكرار ما فعله في العاصمة في عدد من المدن الكبرى بالبلاد، وهو فعل ذلك قبلاً في لوس أنجلوس عندما انطلقت الاحتجاجات المناهضة لسياسة الإدارة تجاه المهاجرين.
غير أن الأمريكيين عموماً لديهم حساسية إزاء وجود الجيش على الأرض الأمريكية.. لكن المفارقة هي أن قاعدة ترامب الانتخابية، التي تنظر بعين الشك العميق تجاه كل ما هو فيدرالي وتطالب بسيادة الولايات وعدم تدخل الحكومة الفيدرالية بالمطلق، ليس لديها مانع إزاء ذلك التدخل لو طال المدن التي تصوت للديمقراطيين، لذلك، فالسؤال الأهم هو: هل سيقدم ترامب على السيطرة الفيدرالية على مدن تقطنها قاعدته الانتخابية أو تمثل أهمية رمزية لهم؟