ربما لا يعلم البعض أن العالم الأسترالي مبتكر «الصندوق الأسود»، الذي يسجل المحادثات في قمرة القيادة بالطائرة، كان قد فقد والده في فاجعة تحطم طائرة عام 1934. لم ينتحر العالم د. ديف وارن بعد مقتل والده، أو يندب حظه العاثر، بل عكف على اكتشاف جهاز أسهم في حفظ آلاف الأرواح من الهلاك في حوادث تحطم الطائرات، لأن جهازه الذي يسجل كل شاردة وواردة صوتية.
فضلاً عن سرعة الطائرة وهبوطها وارتفاعها، وغيرها، صار يُعتمد عليه في التحقيقات، إذ تبدأ بعدها الشركات المصنعة للطائرات والمنظمات الرقابية، بتدارك الخلل في التصنيع، أو في اللوائح والقوانين.
واللافت أن هذا الجهاز ليس أسود، كما يشاع، بل «برتقالي» اللون. والمفارقة أن ذلك الجهاز العظيم، الذي يتحمل شدة المكوث في أعماق المحيطات والحرائق والارتطام بالأرض، لم يرحب به المسؤولون في بلاده، واعتبروه عديم الجدوى في الطيران المدني، حسبما قرأت في موقع للحكومة الأسترالية! وما إن شاهده وجربه الإنجليز، حتى بدأوا في محاولة استخدامه.
ولم يلقَ الابتكار اهتماماً جدياً في أستراليا، حتى اقترح أحد القضاة، في قضية تحطم طائرة، في حقبة الخمسينيات، استخدام هذا الجهاز المهم، الذي غيّر مجرى التحقيقات في عالم الطيران.
وما أكثر ما يعاني المبتكرون في عالمنا العربي من حفلات السخرية والتندر والتجاهل، وما إن تلقى ابتكاراتهم في الخارج التقدير المستحق، حتى يتدافع نحوهم بنو جلدتهم، وكأن النجاح يحتاج «تأشيرة قبول» من الخارج، قبل أن ينال المبدعون ما يستحقون من ثناء وتقدير.
وقد تم اختيار اللون البرتقالي، ربما لسهولة رؤيته بين حطام الطائرة، وفي ذلك رسالة رمزية، بأن الأفكار الخلاقة لا يجب أن تُخبأ في الظلمة، بل لا بد أن تُبرز وتقدر، خصوصاً في الأزمات.
ومن المفارقات أيضاً، أن مسؤولين في الولايات المتحدة لم يستجيبوا لطلب من السفارة الأسترالية لعرض الصندوق الأسود، أو البرتقالي. ليس هذا فحسب، بل إن هذا الجهاز قد لقي تندراً من الطيارين، باعتباره نوعاً من أنواع التجسس عليهم، وهو ما يذكرنا بأن تعليقات الناس من حولنا، يجب ألا تؤخذ دائماً على محمل الجد، لا سيما غير الموضوعية منها، أو تلك المتعلقة بمقترح غير مسبوق.
ومهما كانت قتامة المشكلة أو الورطة، فإن الحل قد يكمن في أذهان المحيطين بنا. فكم من مشكلة أخرجت فريق عمل أو وزارة أو دولة بأسرها من معضلة حقيقية، ليس لسبب سوى أنهم منحوا صاحب الحل آذاناً مصغية.
نحن نعاني من ظاهرة محاربة مساهمات الآخرين، إما خوفاً منهم، أو لأنهم ليسوا من «الشلة» المحسوبة علينا، أو لأن صاحب الفكرة يحمل رأياً سياسياً مغايراً. مع أنه، في داخل كل منا صندوق برتقالي خلاق، يحتاج إلى من يعرف كيف يفتحه، ومتى يفتحه، أو على الأقل يصونه من المهانة والتجريح والتشكيك.
وقد أدركت بلدان عدة، مثل سنغافورة، أهمية منح الفرصة لشعبها من جميع أطياف المجتمع، حتى تضافرت جهودهم، وصنعوا دولة مرموقة، يشار إليها بالبنان. بل وصارت تفتح أبوابها للعقول المهاجرة، وتبنّت مشاريع كبرى، قادها خيرة عقولها.
لا شك أنه لن تقوم لنا قائمة، ما دمنا نصنف مبدعينا وأصحاب المبادرات، قبل أن ندرك جيداً ما في عقولهم من أفكار (وصناديق نيرة)، قد يرفعون بها شأن أوطانهم. وما الصندوق البرتقالي (الأسود)، إلا مثال لاقتراح كان يمكن أن يوأد، لولا أن مُنح صاحبه فرصة التجربة.