مشاعر عديدة غمرتني وأنا في ركن توقيع الكتب بمعرض أبوظبي الدولي للكتاب يوم الأحد الماضي، لا زائراً يحمل شغفه بين رفوف الكتب هذه المرة، وإنما كاتبٌ يضع مسيرة عمره فوق طاولة التوقيع. لحظةٌ أشبه ما تكون برحلة تنقلت خلالها بين أول كلمة كتبتها، وآخر صفحة أنهيتها من كتابي «وما زال الشغف.. حياةٌ بين الإعلام والثقافة».

كان التوقيع في حد ذاته فعلاً عاطفياً، كأنني أوقع على سنواتٍ من التحدي، من البدايات الأولى، ومن مسيرةٍ لم تخلُ من تعبٍ، لكنها كانت ممتعةً بامتياز، مسيرة كان الشغف عنوانها. والشغف، الذي وضعته في صدارة عنوان كتابي، لم يكن فقط دافعاً للكتابة، بل رفيق دربٍ في كل خطوة خطوتها بين دهاليز الإعلام وساحات الثقافة والفكر.

حين بدأتُ تأليف الكتاب، قبل ثلاث سنوات تقريباً، لم يكن الهدف أن أكتب سيرةً ذاتية، ولا أن أسرد تاريخاً مهنياً، بل كنتُ أمشي خلف هاتفٍ داخليٍ يتحدث بصوتٍ عالٍ، كنت أكتب عن أسئلتي، عن هواجسي، عن الرحلة التي عشتها لا بوصفها وظيفة أو مهنة، بل حياة كاملة عابرة بين الصحافة والشاشة، بين المقالة والقصة والكتاب، وبين نشرة الأخبار والتعليق السياسي والبرنامج.

«وما زال الشغف.. حياة بين الإعلام والثقافة» هو محاولةٌ لفهم المسافة بين ما نحلم به وما نحققه، بين ما نؤمن به وما نصطدم به، بين ما نكتبه وما نعيشه. ولهذا، لم يكن الكتاب سرداً للذات، ولا تبريراً للمواقف، بل مصارحة مع النفس، مع الزمن، مع التحولات التي عبرتها، ومع الأسئلة التي طرحتها عبر مسيرة حياتي، ومع الأجوبة التي جمعت بعضها، وتلك التي ما زال بعضها في انتظار الجمع.

في ركن «تحت ظلال الغاف» حيث جرى التوقيع، كانت الوجوه التي مرت أمام منصة التوقيع تشبه فصول الكتاب: هناك من عرفني من خلال شاشة التلفزيون، وهناك من تابعني عبر مقالي الصحفي أو قصصي القصيرة أو كتبي، وهناك من قرأني صوتاً من أصوات الذاكرة الإماراتية.

وجميعهم، من غير أن يشعروا، كانوا شخوصاً مرّوا في الكتاب، أو كانوا أطيافاً دفعتني لكتابته.

ليس سهلاً أن تُلخّص عمراً عشته في كلمات، ولا أن تختصره في فصولٍ محددة، لكنني كنت مؤمناً بأن ما لا يُقال أحياناً يُكتَب، وما لا يُفهم في اللحظة قد يُفهم لاحقاً حين يوضع في سياق الحكاية الكبرى، حكاية القصة التي لم تنته بعد.

الإعلام، كما خبرته، ليس مهنة، بل روح تلتقط نبضَ الناس، وتعيد صياغته على هيئة معنى. والثقافة ليست رفاهاً تعيشه النخبة وحدها، كما هو سائد، بل هي وعيٌ ممتد في تفاصيل الحياة.

وقد كنت خلال رحلة حياتي أتنقّل بين هذين العالمين كمن يتنقل بين ضفتي نهرٍ جارٍ، كمن يعيش بين قلبين، لكل واحدٍ منهما طريقته في النبض، والتعبير، والحياة.

حين اخترت عنوان الكتاب، كنت أعلم أن «الشغف» ليس مجرد كلمة عابرة أزين بها غلاف كتابي، بل هو عنوان حقيقي للرحلة. فكل ما نكتب، وما نقول، وما نحيا لأجله، إن لم يكن مشفوعاً بالشغف، فلن يبقى منه أثر. ولذلك كتبت لأُبقيَ الأثر، كأنني كنت أقول: «عشت لأكتب»، مثلما قال يوماً الكاتب المعجزة غابرييل غارسيا ماركيز: «عشت لأروي».

معرض أبوظبي الدولي للكتاب، في دورته هذا العام، لم يكن مجرد منصة لتوقيع كتاب حوى بين دفتيه محطاتٍ من مسيرة حياتي، بل مناسبةً لقراءة الذات من جديد، ذاتي التي حملتها عبر سنوات عمري، منذ مرحلة الطفولة حتى اللحظة الراهنة.

كان مناسبةً كي ألتقي وجهاً لوجهٍ بمن شاهدني على شاشة التلفزيون، أو قرأ لي مقالة أو قصة أو كتاباً، أن أسمع أسئلتهم لا في صيغة استجواب، بل في صيغة مودة، أن أرى في عيونهم انعكاس الرحلة التي خضتها، كان ذلك وحده كافياً لأقول: إنني قد زرعت فحصدت.

في زمنٍ تتسارع فيه الكلمات، أردت لكتابي أن يكون مساحةً للتأمل، للاستذكار، للحوار مع النفس ومع الآخر. كتاباً عن حياة بين الإعلام والثقافة، نعم.. لكنه قبل كل شيء، عن الإنسان الذي مشى بينهما، حافي القلب، ممسكاً بشغفه، حتى آخر السطر.«وما زال الشغف... فلا معنى للحياة إذا غاب عنها الشغف». بهذه العبارة ختمت الكتاب، وبها أختم المقال.