المعني بهذا الحديث هو الأستاذ عبداللطيف سعد الشملان الذي اضطرته الظروف إلى ترك البحرين والانتقال إلى الكويت للإقامة والعمل، فسطر سطوراً مضيئة خالدة في تاريخ العلاقات بين البلدين والشعبين الشقيقين.
واستطرد: «لقد حافظ على تقدير الناس له، وعلى إخلاصه في العمل، وعلى محبة كل من يتصل به، وكان لا يحمل غلاً لأحد، ولا يتحدث مغتاباً أحداً من الناس فقد كان قلبه صفحات بيضاء خالية من الأحقاد بعيدة عن الكراهية إلى يوم وفاته، رحمه الله، التي كانت في سنة 1981».
وهذا بدوره شجع إدارة الهداية الخليفية على تعيينه مدرساً بها بعد تخرجه منها. وبالفعل مارس التدريس وكوّن علاقات جيدة مع زملائه من المدرسين العرب، وارتبط بصفة خاصة مع اثنين منهم من السوريين من ذوي النزعة العروبية والاستقلالية.
وحينما تخلصت السلطات البريطانية من هذين السوريين بإلغاء عقودهما وترحيلهما، كانت ردة فعل الشملان هي تقديم استقالته من التدريس احتجاجاً.
لاحظت السلطات البريطانية وقتها أن الإقبال على هذه المدرسة كبير من قبل أبناء البحرين وشخصياتها المؤثرة، فعملت على عرقلة نشاطها عقاباً للشملان على تحديه للسياسات الإنجليزية في مجال التعليم داخل البحرين.
وفي ذلك الجو القاتم، فطن الرجل إلى أن قدرته على العمل مقيدة، وأحس برغبة شديدة في الابتعاد والسفر إلى مصر لمواصلة تعليمه.
في هذه الأثناء كان مجلس معارف الكويت قد قرر في 21 فبراير 1939 إرسال أول بعثة كويتية للدراسة في القاهرة لكي تلتحق بالأزهر الشريف، وكانت مكونة من أربعة طلاب متفوقين من خريجي المدرسة المباركية وهم: عبدالعزيز حسين التركيت وأحمد مشاري العدواني ويوسف مشاري الحسن البدر ويوسف عبداللطيف العمر.
وكان من نتائج تلك العلاقة الودية والصحبة الجميلة أن فتحت الأبواب للشملان للسفر إلى الكويت للعمل والإقامة بها.
ففي رواية للأستاذ صالح جاسم شهاب، نقلا عن الشاعر أحمد مشاري العدواني، أن من شجع الشملان على الانتقال إلى الكويت وتوسط له لدى مسؤولي المعارف هو الأستاذ عبدالعزيز حسين، فرحب مجلس المعارف بقدومه، لكن هناك رواية أخرى تقول إن من دعاه إلى الكويت واستضافه مؤقتاً في ديوانه ريثما يتم توظيفه هو الحاج ثنيان الغانم الذي كان في القاهرة.
فمدرساً بالمعهد الديني ما بين عامي 1950 و1952، كما صار مديراً ومفتشاً بدائرة معارف الكويت خلفاً للفلسطيني أحمد شهاب الدين، فقاضياً بالمحكمة المشتركة، فمديراً لبيت الكويت في القاهرة (بيت الطلبة المبتعثين إلى مصر).
وبفضل علمه وإخلاصه ووفائه وتفانيه في العمل نقل عام 1962 إلى مجلس الوزراء، حيث عمل كأمين عام له، وظل شاغلاً هذا المنصب الرفيع إلى حين تقاعده في عام 1969، وأثناء عمله وإقامته في الكويت تزوج الشملان من اللبنانية «إقبال الحبال» التي كانت تعمل كناظرة لإحدى المدارس، ثم أصبحت عام 1948 مفتشة لتعليم البنات.
وأخبرنا الباحث الغنيم أن الشملان كان خلال عام 1948 مرشحاً للعمل مديراً لدائرة الأوقاف، التي تأسست بموجب مرسوم أميري عام 1948، لكنها لم تباشر عملها إلا في عام 1949، ويضيف أنه لسبب ما لم يتول صاحبنا ذلك المنصب.
كما أخبرنا أن الشملان كان مشاركاً، إلى جانب أعماله ووظائفه، في تقديم الخدمات الاجتماعية من نصح وتوعية وكتابة في مجلة «البعثة» الصادرة في القاهرة عن «بيت الكويت».
والحقيقة أن المعلومات عن هذا الدور متضاربة في تفاصيلها. فالأستاذ يوسف شهاب الذي تطرق للموضوع في عموده بجريدة القبس (26 / 2/ 2018) قال إن المعتمد البريطاني بالكويت زمن الحماية البريطانية كانت لديه سلطة الرأي في العلاقات الخارجية للبلاد مع الدول الأخرى، ومنها رأيه في علاقات الكويت التعليمية مع البلاد العربية.
واستطرد قائلاً إن دائرة المعارف في الكويت أرادت في عام 1942 استقدام بعثة من المدرسين المصريين، فأرسل رئيس المعارف آنذاك الشيخ عبدالله الجابر الصباح، عبداللطيف الشملان إلى القاهرة حاملاً رسالة منه بهذا الخصوص إلى رئيس وزراء مصر وقتذاك مصطفى النحاس باشا الذي استجاب وأمر بإرسال أربعة مدرسين إلى الكويت (بعد التعاقد معهم شخصياً براتب 12 جنيهاً مصرياً لكل منهم).
ولما علم المعتمد البريطاني بذلك أرسل احتجاجاً إلى الشيخ عبدالله وطلباً بإبعاد الشملان إلى البحرين بعد سجنه عقاباً على ما فعله، وفصل زوجته من وظيفتها التربوية.
لكن الشيخ رفض الاحتجاج والطلب واتخذ موقفاً حاسماً من القضية المثارة، قائلاً إنه هو المسؤول عن إرسال الشملان إلى مصر.
ثم تمت التسوية بنقل الشملان من دائرة المعارف للعمل قاضياً في المحاكم المشتركة.
ولأنه لم يوفق في مساعيه في فلسطين، اضطر أن يستعين بمدرسين من مصر وسوريا.
وفي السياق نفسه، هناك رواية تتحدث عن أن الشملان نجح في مساعيه في القاهرة لأنه طلب من صديقه الأديب عبدالوهاب عزام أن يرتب له مقابلة مع وزير المعارف المصري آنذاك الدكتور طه حسين الذي استقبله بالفعل بحفاوة ووافق على مد الكويت بالمدرسين والمنح الدراسية.
لكن نجاح الشملان السريع في التعاقد مع المدرسين المصريين، دون الرجوع إلى المعتمد البريطاني في الكويت مسبقاً، أثار احتجاجات وتساؤلات في الدوائر السياسية البريطانية وكان سبباً في مراسلات دبلوماسية كثيرة.
ويبدو أن الإنجليز لم ينسوا خصومتهم مع الشملان في البحرين، فراحوا يطاردونه ويضايقونه في الكويت، ويتربصون بتحركاته وأعماله، ساعين بكل الوسائل إلى اختلاق ما يبرر طرده من الكويت.
ولعل أكبر دليل على ذلك الرسالة التي وجهها المعتمد السياسي البريطاني في الكويت حينذاك إلى رئيسه المقيم السياسي في بوشهر، والذي اعترف فيها أنه منح الشملان رسالة توصية بصيغة «إلى من يهمه الأمر» موجهة إلى السلطات البريطانية، مدنية كانت أو عسكرية، لتقديم أي مساعدة يطلبها الشملان في رحلاته وتجواله للبحث عن معلمين لمدارس الكويت.
لكن المعتمد البريطاني استدرك في الرسالة نفسها وقال إن الشملان «إنسان غير موثوق به لشغل منصب كبير كهذا الذي يشغله».
ومما يذكر عن الراحل أنه ترك خلفه بعد رحيله في عام 1981، العديد من المقالات والبحوث التربوية ومذكرات قيمة عن تجربته التربوية في البحرين والكويت ومساهماته في وضع المناهج التعليمية للمدارس.
