ترامب: مئة يوم من الصخب

عندما كتب غابرييل غارسيا ماركيز، رائعته «مئة عام من العزلة»، استطاع ببراعة أن يخلط بين السحر والواقع. وتعرف هذه المدرسة الأدبية بالواقعية السحرية. أي بمعنى آخر فانتازيا في سياق واقع حقيقي معاش، تتداخل فيه الطبيعة بما وراء الطبيعة.

أما المئة يوم الأولى من حكم ترامب، فقد اتسمت بكثير من الصخب، وتداخل فيها السحر بالواقع. والأمر لا يتعلق بالسياسة الخارجية وحسب، بل في السياسة الداخلية أيضاً. في العادة، المئة يوم الأولى من عمر أي إدارة تتسم بالكثير من الهدوء والقبول، والتعامل الإيجابي مع الإدارة الجديدة.

أهمية المئة يوم الأولى لها جذور تاريخية، تعود إلى الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت - أعظم رؤساء أمريكا في القرن العشرين، وقد يقول البعض قاطبة. فقد وصل الرئيس الأمريكي إلى البيت الأبيض في 1933، والبلاد تكابد من الكساد العظيم، ونظام مالي منكسر. وقد شرع الرئيس روزفلت بتمرير قوانين كثيرة في المئة الأولى من إدارته. وأهمها ما عرف باسم «الصفقة الجديدة». وكان القصد من هذه التشريعات، معالجة البطالة، وتنشيط الاقتصاد، وإصلاح النظام المالي.

أما الرئيس ترامب، وفي المئة الأولى من إداراته، كما جاء في جرد صحيفة «الغارديان» البريطانية الواسعة الانتشار، فإن ترامب، وفي يومه الأول بعد القسم، أصدر في ما يشبه العودة إلى الماضي، عفواً عاماً على المشاركين في الهجوم على مبنى الكونغرس في يناير 2021، لمنع المصادقة على فوز الرئيس جو بايدن. وفي نفس الوقت، أصدر أمراً تنفيذياً له سلطة القانون، بحرمان المولودين في الولايات المتحدة من حق اكتساب الجنسية، رغم تعارضه مع مواد الدستور.

وفي اليوم ذاته، كذلك، انسحب من منظمات دولية لا تتوافق مع أجندته السياسية أو مزاجه. وفي الوقت نفسه، أعاد تسمية خليج المكسيك بـ «خليج أمريكا». وأمر بالتحقيق بشأن المدعي العام، الذي تتبع التحقيق ضد الرئيس في مخالفته للقوانين - سابقة في السياسة الأمريكية.

وفي المئة اليوم الأولى، صعّد ترامب من ملاحقة المهاجرين المخالفين للقوانين الأمريكية. واعتقل كثيراً من الأجانب، تحت طائلة قانون الأعداء الأجانب، وتم تسفيرهم خارج البلاد، دون الحق في جلسة استماع في المحاكم. ولاحقت الإدارة والسلطات المختصة المعروفة اختصاراً بـ «أيس»، المنوط بها إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك، طلاب الجامعات، والذين تظاهروا ضد حرب إسرائيل في غزة. واعتقلوا طلاباً موجودين شرعياً في البلاد، ويحملون الإقامة الدائمة.

ورغم أن قاضياً أمر بإرجاع كثير من المستبعدين إلى خارج الولايات المتحدة، إلا أن الإدارة لم تستجب لهذا الحكم، ما حدا بالقاضي بإصدار تحذير بأنه سيجلب المسؤولين إلى المحاكمة، بسبب تجاهلهم حكم صادر من المحكمة، والذي يعد مخالفة يحاسب عليها للقانون الأمريكي.

وفي العلاقات الخارجية، شهد العالم ما يشبه الفنتازيا السياسية، أو الواقعية السحرية، في البيت الأبيض، في الأيام المئة الأولى. فقد هاجم الرئيس الأمريكي رئيس أوكرانيا، فولوديمير زيلينسكي، متهماً إياه بالمغامرة بحرب عالمية ثالثة. وقد اشترك نائب الرئيس في الهجوم على الرئيس الأوكراني، بما يبدو أنها معركة منسقة ضد زيلينسكي. جلبة على شاشات التلفاز، يتماهى مع تلفزيون الواقع.

ومع اليوم الثالث والسبعين من أول مئة يوم، كان يوم التحرير - تسمية تليق بزعيم ثوري وسط ميدان المدينة، وليس بزعيم جمهوري محافظ - أعلن الرئيس، وسط حشد من معاونيه وبعض عمال النقابات، عن زيادة في التعرفة الحكومية على المنتجات المستوردة. والقصد، كما قال الرئيس، هو تحقيق الاستقلال الاقتصادي لأمريكا. واتهم العالم باستغلال أمريكا، والاغتناء على حسابها، بينما يزداد تهميش الأمريكيين. سابقة لدولة ما انفكت تروج لحرية التجارة، وتحارب القيود المفروضة عليها. تغير ما يعرف بإجماع واشنطن، إلى القومية الاقتصادية الأمريكية. فسبحان مغيّر الأحوال!