مثل عاشقٍ مملوء القلب بالحنين إلى الحبيبة، يقف الشاعر أحياناً على أطلال شعره مسترجعاً صدى الذكريات القديمة، ومؤكِّداً أنه ما زال وسيبقى على العهد الذي يتغلغل في حنايا قلبه، حيث يجد في هذه الوقفة نوعاً خاصاً من الحنين الذي يضيء جوانح القلب، ويمنح الشعر لحظة من الصفاء الذي لا يمكن إنكار عمق تأثيره في نفس الشاعر والقارئ.
بإطلالة فارس من فرسان الشعر الكبار، أطلّ علينا سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، رئيس المجلس التنفيذي لإمارة دبي، وهو يلقي قصيدة بديعة بصوته الهادئ الجميل العميق، هي بكلّ صدقٍ وشفافية من أبدع ما جادت به قريحة سمو الشيخ حمدان، حيث اختار لها قافية رقيقة الإيقاع تنتهي بحرف الباء والهاء بكل ما فيهما من لطف ورقة، وأبدع في تقطيع محتواها وكأنه يُوْدِع في كل كلمة يقولها من هذه القصيدة قطعة من إحساسه ومشاعره، فكانت لحظة إبداعيّة بكل مقاييس الجمال والإبداع.
عن ساحة الشعر وأهل الشعر طال البعاد
والشعر محبوب وبيوته لي حْبيّبه
مالي أرى مِدّعينك يا الشعر في ازدياد
هل أصبحتْ ساحتك يا شعر مِتسيّبه
منذ العصر الجاهلي كان لكلّ شاعر صاحبٌ يستحضره في لحظة عاطفية تحتاج إلى البوح والحوار، وها هو سمو الشيخ حمدان بن محمد يستعيد ذلك الشعور حين يخاطب صاحباً له يخلقه من هواجسه الشعرية، حيث يُجري على لسانه سؤالاً عن ابتعاد سمو الشيخ حمدان عن ساحة الشعر على الرغم من شدة تعلّق قلبه بالشعر الذي يعشق أبياته ويحتفظ له في القلب بمنزلة الحبيب المحبوب، ليتساءل بعدها من خلال مخاطبة الشعر عن كثرة الأدعياء الذين يقفزون من فوق الأسوار ويدخلون ساحة الشعر على الرغم من افتقارهم إلى الموهبة الإبداعية، فكأن ساحة الشعر أصبحت سائبة لا يحرسها عشاق الشعر وفرسان القصيد الذين يعرفون قدر الشعر ومنزلة أهله الكبار، ولا يسمحون لهؤلاء المتطفلين بالدخول إلى ساحة الشعر التي لا يدخلها إلا كل فارس موهوب من فرسان القصيد.
والحبكه اللي معانيها تجرّ الفؤاد
صاير لها وقت عن الأسماع مِتغيّبه
إلى جماهير شعري من جميع البلاد
شاعركم الظن منكم فيه ما خيّبه
في هذا المقطع من هذه القصيدة الجميلة يلقي سمو الشيخ حمدان ضوءاً على مظهر من مظاهر الضعف لدى الشعراء الأدعياء، وهو ضعف التركيب الشعري والنسيج الفني للقصائد، والذي عبّر عنه بمفهوم الحبكة التي تجمع جميع خيوط القصيدة وتشدّها إلى بؤرة واحدة وتكون هي مركز الثقل في القصيدة، ويكون لها فعل السحر في القلوب، ولكنها مع هؤلاء الشعراء الأدعياء، فقد مضى عليها وقت طويل وهي متغيّبة عن ساحة الشعر بسبب ضعف الأداء الشعري لدى هؤلاء المتطفلين على ساحة الشعر، ولكن سمو الشيخ حمدان يؤكّد لعشّاق شعره المنتشرين في جميع البلاد والأصقاع أنه ما زال على العهد، وسيبقى للشعر في قلبه أسمى مكانة، ولن يخيّب ظن هؤلاء العشاق لشعر سمو الشيخ حمدان، الذي يتدفّق بالعاطفة الصادقة، والصور الجميلة والموسيقى العذبة الساحرة، التي تشكّل بمجموعها روعة الشعر وتأثيره في القلوب.
سافَر يعانق نسيم البرد في كل واد
البرد بيني وبينه صحبة طيّبه
ويا الشاعر ف شعرك أوصّيك في الاجتهاد
اختر من أبكار فكرك ولتدعْ ثيّبه
في هذا المقطع من القصيدة يفسّر سمو الشيخ حمدان سبب غيابه عن ساحة الشعر وغيابه عن عشاق شعره، وأن ذلك بسبب سفره إلى الصحراء لمعانقة نسيم البرد الذي تجمعه به صحبة طيبة نشأت من خلال رحلات الصيد، وتنسّم نسيم الصحراء في ساعات الصفاء، ليتوجّه بعد ذلك بالحديث إلى الشعراء الذين يكتبون القصيد من غير رويّة ولا تفكير، فيأمرهم بالاجتهاد في صياغة النظم الشعري، وأن يختار الأفكار البكر اللامعة في العقل والقلب، وأن يُعرض عن الأفكار المطروقة التي تشبه المرأة الثيّب في مقابل البكر الجميلة.
وأوصّي المنتقد لو حبّذا الانتقاد
تكون نظرات فكره ما هي قريّبه
ولينتقد من نصوص الشاعر اللّي أراد
لكن يعيّب نصوصه ما هو يعيّبه
نحتاج للنقد حاجة أرضنا للسماد
لو كان ريحه نتن منابته طيّبه
وبعد أن أوصى سمو الشيخ حمدان كل شاعر بضرورة تجويد شعره، انعطف للحديث عن حاجة الشعر للنقّاد الصادقين الذين ينتقدون العمل الفني وليس صاحبه، طالباً من الناقد أن تكون نظراته النقدية عميقة الغور، وليست سطحيّة تطفو على سطح القصيد، وأن يتحلّى أيضاً بالشجاعة الأخلاقية حين يتوجّه بنقده لجوهر العمل الفنّي المتمثّل في الشعر، ولا يكون من أهدافه مهاجمة شخص الشاعر؛ لأن ذلك يخرج بالنقد عن سياقه الصحيح، فنحن بحاجة للنقد مثل حاجة الأرض للسّماد كي تقوى به، فالريحان مهما كان طيّب النبت والأصل فإنه يحتاج للسماد كي يزداد قوة وثباتاً في ترابه، ويفوح عطره، وتسرّ العين برؤيته.