إذا شئنا أن نضع الحرب الروسية الأوكرانية في إطارها الصحيح، فعلينا أن نعود بها إلى نقطة البداية أي إلى 23 فبراير 2022 الذي يسبق مباشرة يوم إطلاق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لها على الأراضي الأوكرانية..
ففي اليوم ذاته والأيام التي سبقته كانت موسكو ترصد اقتراباً لدول حلف شمالي الأطلنطي من حدودها مع أوكرانيا، وكانت تحذر من أنها لا تقر هذا الاقتراب ولا تقبل به، وأنها في النهاية لن تسكت عليه.. ولكن الحلف لم يأخذ تحذيرها بالجدية الواجبة، وراح يواصل إمداد الأوكرانيين بما رآه الروس مثيراً لمخاوفهم إلى حد بعيد.
وكان العقل يقول إن ما لم تقبل به الولايات المتحدة الأمريكية في أيام الرئيس جون كيندي، لا يجب أن تجعل روسيا تقبله هذه الأيام، وإلا كانت تكيل بمكيالين.
إن العالم كله يذكر أن الاتحاد السوفييتي كان في أيام كيندي قد اقترب من الحدود الأمريكية بأكثر مما هو لازم، أو بأكثر مما هو مسموح به، وكان ذلك عندما راح السوفييت بزعامة نيكيتا خروشوف ينصبون صواريخهم على الأراضي الكوبية التي لا تبتعد عن ولاية فلوريدا في الجنوب الأمريكي، إلا ببضع عشرات من الأميال بالكاد.. وكان ذلك مدعاة إلى أن تستنفر إدارة كيندي كما لم تستنفر من قبل، فإذا كان الاستنفار بين قوتين نوويتين، فإن لنا أن نتخيل حدود ما يمكن أن يذهب إليه الاستنفار من عواقب مدمرة للعالم كله تقريباً، وليس للقوتين المستنفرتين وحدهما أو في حدودهما.
ولولا بقية من حكمة لدى الرئيس السوفييتي لكان العالم قد سقط في محرقة نووية شبيهة بالمحرقة التي أصابت مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين، عندما استهدفتهما إدارة الرئيس الأمريكي، هاري ترومان، فسوت بهما الأرض وأحرقت فيهما الشجر بمثل ما حرقت البشر والحجر.
أحس خروشوف بأن الضرر الذي سيلحق بالأمريكيين سيرتد ليلحق ببلاده نفسها، وربما بشكل أعنف وأشد، فآثر أن يهدئ مما كان قد ذهب إليه، وأعطى توجيهاته بتفكيك الصواريخ فوق الأراضي الكوبية، وكفى الطرفان شر القتال.. وأي قتال؟ لقد كان قتالاً كفيلاً لو نشب بأن يدمر نصف العالم في طريقه وربما ما هو أكثر.
اشتهرت الأزمة بين البلدين بأنها أزمة الصواريخ الكوبية، وكانت على وجه التحديد في عام 1962، أي في العام السابق مباشرة على العام الذي لقي فيه كيندي مصرعه في مدينة دالاس الأمريكية.
ولا تعرف لماذا لم يحصل خروشوف على جائزة نوبل للسلام؟ فلقد استحقها عن جدارة يوم أمر بسحب صواريخ بلاده من كوبا، نظير تعهد الولايات المتحدة بعدم غزو الجزيرة الكوبية، واستحقها أكثر يوم أصدر كتاباً مهماً تحت عنوان: التعايش السلمي كما أفهمه.
عندما نضع مشهد 1962 السوفييتي الأمريكي، أمام مشهد 2022 الروسي الأوكراني، ثم نقارن بينهما دون انحياز إلى طرف هنا أو طرف هناك، يتبين لنا أن المخاوف التي أيقظتها الصواريخ السوفييتية لدى واشنطن في ستينيات القرن الماضي، هي نفسها تقريباً المخاوف التي استيقظت لدى موسكو حين رصدت اقتراباً لحلف الأطلسي من حدودها مع كييف.
وبالقياس، فإننا لا يمكن أن نجعل الاستنفار الأمريكي حلالاً في وقته، ثم نجعل الاستنفار الروسي حراماً على الروس في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن بوتين مبرأ من أي خطأ في هذه الحرب التي أطلقها من ناحيته، والتي تظل مرشحة لأن تدخل عامها الخامس في 24 فبراير المقبل، إنها مرشحة لذلك لو لم يتكفل دعاة السلام بإيقافها بأي ثمن وبأي طريقة.
وقد أوشكت من جانبي أن أقول: لو لم يتكفل بها ترامب، ولكنه بعد أن دعا بوتين إلى قمة أمريكية روسية في ولاية ألاسكا الأمريكية، عاد يتشاءم من إمكانية وقف الحرب ومن قدرته على ذلك، فأطلق تصريحاً غريباً قال فيه إن جمع الرئيس الروسي مع الرئيس الأوكراني على مائدة واحدة أقرب ما يكون إلى خلط الزيت بالماء!
ومعروف علمياً أن الزيت لا يختلط بالماء، وأنك إذا ألقيت بعضاً من الزيت في إناء به ماء، فإن الزيت يشكل طبقة عائمة فوق سطح الإناء ثم يظل في هذه الوضعية، فلا يختلط بالماء مهما هززت الإناء، ومهما حاولت خلطهما ببعضهما بعضاً.. ومع ذلك فإن هذا ليس مدعاة لليأس لأن قوانين البشر ليست كقوانين الطبيعة، وما يجوز بين الزيت والماء يمكن ألا يجوز بين الروس والأوكرانيين إذا صدقت النوايا، وإذا آمن كل طرف بأن انتصاره المطلق ليس ممكناً وإنما يمكن أن ينتصر إلا قليلاً.