الوفاء في زمن الجحود

حاولت فتاة هندية أن تتعهد ثعباناً صغيراً بالرعاية والاهتمام في منزلها حتى كبر، وكان يأكل يومياً مما تطعمه، ويلتف حولها طلباً للدفء، وهو ما زاد من حبها له، ثم توقف الثعبان فجأة عن تناول الأكل، الأمر الذي أثار قلق الفتاة، فأخذته إلى الطبيب وشرحت له حالته، فقال لها الطبيب:

إن هذا الثعبان، الذي بلغ طوله أربعة أمتار، وينام يومياً إلى جانبك ليس مريضاً بل في الواقع يتعمد تجويع نفسه، ويلتف حولك ليقيس حجمك وطولك، استعداداً لالتهامك! هنا صعقت الفتاة، وهذا ما حصل فعلاً في قصة يُروى أنها حقيقة.

ما يهمنا في هذه الحكاية أن هذا السلوك المشين ليس مقصوراً على الثعابين، فهناك ثعابين بشرية تعيش بيننا نحسن إليهم، لكنهم يضمرون لنا البغضاء والحقد والحسد والضغينة، وهذه مشكلة تؤكد أن المرء لا يستطيع أن يغير سلوك البعض ممن ترعرعوا على موائد اللئام.

المؤلم أن من هؤلاء من يتسلقون على أكتاف غيرهم لبلوغ مآربهم، وعندما يحققون ما يريدون ينكرون المعروف، ومن مد إليهم يد العون، وربما أظهر بعضهم شيئاً من التودد الزائف والمجاملة الصفراء حتى يؤمن كل منهم جانبه، ثم ينقلبون ضد من أحسن إليهم في ليلة وضحاها، هذا هو الجحود بعينه.

المؤسف أن هؤلاء يشكلون خطراً على روح الجماعة أو النسيج الاجتماعي، الذي يخالطونه، لأنهم ببساطة يئدون الثقة، ويفسدون روح التعاون، ويشوهون فكرة الوفاء، التي تقام عليها العلاقات الإنسانية الوطيدة.

وهذا ما دفع الرجل الذي اكتشف أن العبد «الأبيض» الوسيم، الذي رباه حتى بلغ أشده قد خانه مع ابنته، فقال بحنق المثل الشهير «سمن كلبك يأكلك»، وهي «الصيغة الثانية» من مثل «جَوِّع كلبك يتبعك».

مشكلة الذين لا يثمنون ما يقدم لهم من معروف أنهم لن يصبحوا محل ثقة، فكم من مسؤول منح صلاحيات مطلقة، فنكث بمن منحه الثقة العمياء، فعين «المتردية والنطيحة» في العمل لمصالح شخصية ضيقة، وربما أقصى الأكفاء، وقرب المطبلين من حوله واختلس أو ظلم أو طبق سياسة «فرق تسد»، التي لا تصلح للعمل الإداري.

حينما يخذل المرء من أحسن إليه من أفراد أو مؤسسات فلا بد أن يتوقع رد فعل حازم يفجعه، فلا يعقل التهاون في أمر من يقتات على الشر، وينشره بين الناس.

ما أكثر بيئات العمل التي يضرب بها المثل من حيث مناخ العمل فيها إلا أنه في غفلة من الزمن تم تعيين مجموعة من العناصر السلبية، التي نشرت أجواء مخيبة للآمال.

فهناك من لا يكترث لمصلحة مؤسسته ولا لضررها، فهو مستعد لفعل كل شيء يؤذيها ويؤذي العاملين فيها، لأنه لم يحصل على مراده من منصب زائل أو حفنة نقود. المشكلة أن هؤلاء مكشوفون لكثيرين.

لكن المعضلة تكمن حينما لا يستغني عنهم متخذ القرار، وفي هذه بحد ذاتها تحديان، الأول أن يناط بمن يفتقر للقيم ملفات مهمة، ويعطى «الخيط والمخيط» كما يقال، وليس له بديل، فنراه يتحكم بالجميع ويهابونه، ولهذا ينصح دوماً بوجود بدائل لكل موظف مهما علا شأنه.

صحيح أننا لا نستطيع أن نتحكم بالناس، ولا بسلوكياتهم، ولكننا في الواقع نستطيع أن نراقب، ونقيم، ونتدارك قرارات لم تكن مدروسة، لتقليل حجم الضرر.

الذي يستحق التقدير هو من يثمن المعروف، ويبادل الإحسان بالإحسان، ويحتفظ بقيم نبيلة، أما اللئيم فلا يفقه معنى هذه الفضائل، ولذا ينطبق عليه قول المتنبي:

إذا أنتَ أكْرَمتَ الكَريمَ مَلَكْتَهُ

وَإنْ أنْتَ أكْرَمتَ اللّئيمَ تَمَرّدَا