معاداة السامية ومعاناة الإنسانية

«أنتم تقتلون الأطفال وتجوعون الناس وترتكبون إبادة جماعية في غزة، وكلها جرائم حرب يعاقب عليها القانون الدولي»، وقد فعل حين أصدرت المحكمة الجنائية الدولية حكماً باعتبار نتانياهو وغالانت وزير دفاعه آنذاك مجرمي حرب. يرد أي مسؤول إسرائيلي، وخاصة نتانياهو: «أنت معاد للسامية»، وينتهي النقاش.

غير أن هذه الفزاعة التي رفعها قادة إسرائيل على مدى تاريخ إنشائها، نعني معاداة السامية، لم تعد تكفي لتغطية جرائم الحرب التي ترتكبها حكومة وجيش نتانياهو، بالصوت والصورة في غزة.

أطفال لم يبق منهم سوى الجلد والعظم، أمهات مرضعات جف حليبهن بسبب التجويع الممنهج، سوء تغذية يسبب أمراضاً، ثم الموت لبشر ذنبهم أنهم أحياء، مياه غير صالحة للشرب تنشر فيروسات قاتلة في أمعاء خاوية. كل هذا وغيره باعتراف منظمات الأمم المتحدة.

بين كل نزوح ونزوح نزوح ثان وثالث وعاشر، ومع كل شاهد على القتل عشرات وربما مئات الضحايا يومياً، والمعنى يقوله سموترتش وبن غفير وكاتس صراحة، ونتانياهو مواربة وكذباً:

«ليس هناك مجاعة، نحن لا نستهدف المدنيين، نؤمن لهم أماكن آمنة في الجنوب آمنة مؤقتاً لتهجيرهم خارج غزة.. دمرنا 75 % منها وها نحن نحاصر غزة المدينة، سنحتلها خطوة خطوة..

وسنسلم غزة المدمرة خالية من البشر إلى حليفنا ترامب ليقيم عليها ريفيرا الشرق الأوسط ويستغل غاز بحرها».. هذا ربما ما أقنع به نتانياهو سيد البيت الأبيض، وما يفسر مواقفه من جرائم الاحتلال.

ورقة معاداة السامية مزقتها أطنان القنابل ولطختها دماء الأبرياء، ولم يعد العالم يراها بالوضوح الكافي كما قبل الحرب. ولم تعد تبرر مواقف اليمين المتطرف الحاكم في إسرائيل تجاه غزة والضفة.. وهذا ما عبر عنه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في رده على انتقاد نتانياهو لفرنسا أنها لا تقوم بما يكفي لمواجهة العداء للسامية في بلاده، رافعاً نفس ورقة معاداة السامية بمواجهة عزم فرنسا ودول أوروبية أخرى الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة قريباً.

في رسالة علنية اتهم ماكرون نتانياهو، باستغلال ملف معاداة السامية لأغراض سياسية، معتبراً اتهامات التقاعس إهانة لفرنسا.. ودعاه إلى وقف الهروب القاتل إلى الأمام في حرب غزة والتخلي عن الاستيطان غير القانوني في الضفة الغربية.

وأكد ماكرون في رسالته التي تعمد أن ينشرها في صحيفة لوموند، أن مكافحة معاداة السامية لا يمكن أن تكون موضوعاً للاستغلال، ولا يجب أن تغذي أي خلاف بين إسرائيل وفرنسا. وأضاف أن حماية اليهود الفرنسيين من معاداة السامية هي أولوية مطلقة منذ اليوم الأول لتوليه المنصب.

حذر ماكرون نتانياهو قائلاً: احتلال غزة، الترحيل القسري للفلسطينيين وتجويعهم، نزع إنسانيتهم وخطاب الكراهية إلى جانب ضم الضفة الغربية، لن تجلب النصر لإسرائيل أبداً.. على العكس، هذه الخطوات ستزيد عزلتكم الدولية وتغذي من يستخدمونها ذريعة لمعاداة السامية.

لم يسلم حتى ترامب من تهمة معاداة السامية حين جاء على ذكر المرابي اليهودي شايلوك في مسرحية شكسبير «تاجر البندقية» التي كتبها في القرن الخامس عشر.. ما دعاه إلى الاعتذار وفتح جبهة مع الجامعات الأمريكية، ضارباً عرض الحائط بحرية التعبير والديمقراطية التي تفتخر بها أمريكا. ليس ترامب وحده..

ففي 2014 استخدم جو بايدن، وكان آنذاك نائباً للرئيس أوباما، مصطلح شايلوك، وهو توصيف نمطي يربط اليهود بالربا والطمع، في خطاب قانوني أشار فيه إلى معاناة الجنود الأمريكيين في العراق بسبب الديون والمتعهدين المستغلين. وعلى إثر الانتقادات، اعتذر بايدن لاحقاً واصفاً العبارة بأنها اختيار سيئ للكلمات. لقد استيقظ الضمير الإنساني في العالم على أن الإنسانية أعدل وأشمل من معاداة السامية التي باسمها ترتكب حكومة نتانياهو أقسى حروب التجويع والإبادة والتهجير.