أوهام إيديولوجية ودينية إسرائيلية

ماذا يجري الآن في منطقتنا، وإلى أين ستتجه الأوضاع، التي يبدو أن كثيراً منها غير مسبوق الوقوع فيها؟. البعض يجيب بأننا في لحظة جديدة، مماثلة لما جرى عام 1916، باتفاق المملكة المتحدة وفرنسا، وتصديق من روسيا القيصرية، الذي سُمي باسم موقعَيه، الدبلوماسيين البريطاني والفرنسي، مارك سايكس، وفرانسوا جورج بيكو، والذي قُسّم بموجبه المشرق العربي ومنطقة الهلال الخصيب، إلى مناطق نفوذ واحتلال للدولتين الأوروبيتين صاحبتي الاتفاق.

يرى هؤلاء أننا إزاء إعادة تقسيم لنفس المنطقة، في ظل وجود فاعلين جدد، في مقدمهم إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية، بهدف أساسي، وهو هيمنة الدولة العبرية على كل تلك المنطقة، وتأمين إقليمها ومصالحها فيها.

ويرى البعض الآخر، أن ما يجري هو في جوهره محاولة حقيقية منفردة من الحكومة الإسرائيلية الحالية، لتطبيق ما صرح به رئيسها، بنيامين نتانياهو، عدة مرات، بتشكيل شرق أوسط جديد، تكون فيه إسرائيل هي القوة المسيطرة عليه عسكرياً، والمستفيدة منه سياسياً واقتصادياً، وهو ما عبّرت عنه الخريطة التي رفعها في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر 2023، وقبل عدة أيام من هجمات السابع من أكتوبر 2023 على إسرائيل. وقد أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي.

هذا الأمر مؤخراً، حينما تحدث عن إسرائيل الكبرى، مع تسريب بعض الخرائط عن حدودها، التي امتدت إلى كل الدول المجاورة لحدودها الحالية، وأخرى ليس لها معها حدود تُذكر.

والأرجح أن ما يجري في المنطقة الآن، هو أساساً الاحتمال الثاني، مع تداخل غير مباشر مع الاحتمال الأول.. ويعني هذا بوضوح، أن فكرة الشرق الأوسط الجديد، المختلف في تفاصيله وحدوده وكياناته عما هو قائم اليوم، هو فكرة إسرائيلية محضة، تتبناها بشكل خاص قوى اليمين الإسرائيلي بكل أطيافها، وأن هذه الفكرة ليست وليدة اليوم، بل هي جزء أصيل من إيديولوجية هذا اليمين منذ قيام الدولة العبرية، بل وما قبل ذلك.

هذا الشرق الأوسط الجديد، وهذه إسرائيل الكبرى، ليسا نتاجاً لهجمات السابع من أكتوبر، ولا الحرب الدموية التي تشنها إسرائيل منذ نحو عامين على قطاع غزة، والمترافقة مع حرب التفتيت والضم لأراضي الضفة الغربية بصورة متسارعة، تكاد تودي بكل إمكانية لقيام دولة فلسطينية يوماً ما، ويتأكد هذا، بما تحدث به رئيس الوزراء الإسرائيلي، والخريطة التي عرضها في الأمم المتحدة، قبل هذه الهجمات، قبل أيام منها.

والأرجح أن اليمين الإسرائيلي الحاكم اليوم، قد قدر أن التطورات التي جرت بعد السابع من أكتوبر، الفرصة المناسبة للبدء في التحرك الفعلي، من أجل تحقيق الهدفين المتوهمين لديه:

الشرق الأوسط الجديد، وإسرائيل الكبرى، التي تتحكم به وتستفيد منه. من هنا، فقد كان التعمد الإسرائيلي منذ البداية لتوسيع نطاقات المواجهات العسكرية في المنطقة كلها، وصولاً إلى الجبهات السبع التي تحارب فيها إسرائيل، بحسب التعبير المفضل لرئيس وزرائها.

والأرجح، أن الأطراف الإقليمية التي خاضت مواجهات خلال العامين الماضيين مع إسرائيل، لم تنتبه إلى هذه الرؤية الإسرائيلية الأكثر عمقاً وخطورة على المنطقة كلها، فكان أن استفاد منها اليمين الإسرائيلي الحاكم، للمضي بسرعة نحو هدفه الاستراتيجي القديم – المتجدد.

وهنا، يظهر تداخل الولايات المتحدة مع هذا التصور الإسرائيلي اليميني المتطرف للمنطقة.. فالأرجح أنه لا مصلحة لواشنطن في مثل هذه الفوضى العارمة التي سيسببها السعي الإسرائيلي لتحقيق هذا التصور، بل على العكس.

فالإدارة الأمريكية الحالية، ترغب أكثر في مزيد من الهدوء في المنطقة شديدة الحيوية لمصالحها العالمية، وليس لمزيد من الفوضى فيها. وبالرغم من هذا التباين في الرؤيتين، فإن الدعم الأمريكي الكامل لإسرائيل، في كل من عدوانها على غزة، وهجومها على إيران، واعتدائها على لبنان، وإن يكن هدفه هو الدعم التقليدي لها، بحجة الدفاع عن النفس، وليس مساندة هدفي الشرق الأوسط الجديد وإسرائيل الكبرى.

فإن النتيجة العملية على الأرض، هي مواصلة الحكم اليميني الإسرائيلي السعي المتسارع للاستفادة من هذا الدعم المتواصل، من أجل الوصول إلى تنفيذ هذين الهدفين.

ولا توجد خلاصة نهائية لهذا التحليل، سوى جملة واحدة: عند توقيع اتفاقية سايكس – بيكو، كانت أوضاع العالم والمنطقة وشعوبها ليست هي بأي حال ما هي عليه اليوم.

وبالتالي، فإن توهم إمكانية إعادة التاريخ، ولو بصور أخرى، وبوسائل مختلفة في نفس المنطقة، تبدو أقرب إلى الوهم الإيديولوجي والديني، يكاد يستحيل تطبيقه واقعياً، وإلا فإنها الفوضى غير المسبوقة، بكل ما قد ينتج عنها من مخاطر هائلة على الجميع، وأولهم أصحاب هذه الأوهام الإيديولوجية والدينية.