اللعب بالنووي!

تمر العلاقات الدولية بمرحلة خطيرة وحرجة للغاية، وبدا واضحاً أن المنظومة القيمية والقانونية والجيوسياسية المنبثقة من الحرب الكونية الثانية تتآكل وتضعف ومقبلة على تغييرات دراماتيكية تهدد استمرارها، وهي في كل الحالات والسيناريوهات بلغت نهايتها ومداها، ليدخل العالم في مرحلة مخاض كبرى بدأت هي الأخرى ملامحها تتجلى وتتّضح تدريجياً.

إن الإقرار بالواقع الجيوسياسي الجديد أضحى مسألة وقت لن يطول انتظاره، لجهة أن المؤسسات وقواعد التعامل المشتركة لما بعد الحرب العالمية الثانية لم تعد تعبر عن المتغيرات الكبرى والمتسارعة.

وأصبحت لا تلبي حاجيات ومصالح القوى الاقتصادية والعسكرية الصاعدة، وهي إلى ذلك لم تواكب التحولات السياسية حتى داخل الدول التي مثلت على مدى أحقاب مركز الثقل في منظومة العلاقات الدولية لما بعد الحرب الثانية، الولايات المتحدة والقارة الأوروبية العجوز أمثلة على ذلك.

وتأتي هذه التحولات في أعقاب أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية وصحية خانقة، لم تتمكن مختلف أنظمة الحكم داخل هذه الدول من فك شفراتها، ما فاقم هذه الأزمات وساهم بشكل مباشر في تنامي القوى المتطرفة ومكنها من الوصول إلى السلطة في عديد الدول، وغير بالتدريج رؤية هذه الدول لواقع العلاقات الدولية.

ومعلوم أن المنظومة القيمية والقانونية لما بعد الحربين الكونيتين الأولى والثانية بالخصوص قامت على فكرة أساسية، وهي أن إحلال الأمن والسلام وعدم اللجوء إلى الحروب في فض النزاعات هو الذي ينبغي البناء عليه لإرساء نظام عالمي جديد ومستقر يمكن البشرية من تحقيق أهداف التنمية المستدامة والشاملة ويقي البشرية ويلات الحروب المدمرة.

وعلى هذا الأساس تم تركيز المؤسسات والهيئات الدولية وبناء القواعد المشتركة للتعامل التي تساعد على تحقيق هذه الأهداف، وهي منظومة قامت كلها على ترجيح منظومة الدفاع الشامل ومتعدد الأبعاد لدرء مخاطر اللجوء إلى الحروب.

ومع فقدان هذه المنظومة جدواها بالنسبة للقوى التقليدية المتحكمة فيها، عاد البريق مجدداً لمنطق القوة متعددة الأوجه كأحد العوامل الرئيسة في العلاقات الدولية، ومظاهر ذلك عديدة ومتنوعة ومن ذلك حرب التعريفات الديوانية والعودة المرعبة لسباق التسلح النووي بالأساس.

وفقدان المؤسسات والهيئات الدولية المشتركة مصداقيتها، بما أضعف دورها وأفقدها القدرة على تحقيق الأهداف التي بعثت من أجلها. ويتزامن ذلك مع تزايد خطاب التهديد باللجوء إلى السلاح النووي، والتخلي عن اتفاقيات ضبط التسلح التي حكمت العالم منذ تسعينيات القرن الماضي.

ولعل أكبر تجليات هذه التحولات المأسوية والاستراتيجية في آنٍ واحد هو ما أقدم عليه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إِذْ قام الاثنين الماضي بتغيير وزارة الدفاع إلى وزارة حرب، وهو تغيير يتماشى مع رؤيته لدور بلاده في العالم والتي تقوم على ركيزتين أساسيتين أولاهما أولوية المصالح الأمريكية، وثانيتهما أن القوة هي الأداة الأولى في فرض المصالح، ما أعطاها الحق في التدخل في كل شيء وفي كل الدول.

وبالتدريج تضافرت موضوعياً الإرادات الفعلية للقضاء على القواعد المشتركة للقانون الدولي والعلاقات الدولية التي تقوم على مبدأ المساواة بين الدول، رغم استمرار سياسة تعدد المكاييل، لتخضع هذه القواعد من جديد فقط لمنطق القوّة والنفوذ الاقتصادي والمالي والعسكري المتوحش والمنفلت.

إن الحس السليم كان يرى في التلاعب بالمنظومة المنبثقة من الحرب العالمية الثانية بالأساس نوعاً من اللعب بالنار قد يؤدي إلى الانهيار الكامل للقواسم المشتركة بين البشر ويفتح مجدداً أبواب الحرب، ولكن الاعتقاد يذهب الآن إلى أن طريق المخاض الحالي محفوف بالمخاطر ويتجاوز مجرد اللعب بالنار، لأن سباق التسلح الحالي واللعب بالنووي والهوس بمنطق القوة هو أشد وأقرب إلى الانتحار الجماعي.