وبرحيله عن عمر ناهز 83 عاماً، فقدت الدبلوماسية القطرية وجهاً من وجوهها المألوفة في أروقة الأمم المتحدة على مدار 12 سنة (من 1972 إلى 1984)، كان خلالها صوتاً ينافح عن قضايا العرب والمسلمين في الاجتماعات السنوية للجمعية العامة، وعامل توفيق وتنسيق وانسجام بين سفراء المجموعة العربية، ومشاركاً نشطاً في مختلف الفعاليات الأممية بنيويورك، بصفته أول ممثل لدولة قطر في أكبر صرح عالمي، فضلاً عن كونه الشخصية التي أسست لآلية عمل البعثة القطرية هناك، والتي استفاد منها من أتوا بعده منذ عام 1984، وهم على التوالي: د. حمد بن عبدالعزيز الكواري (من 1984 إلى 1990)، د. حسن بن علي النعمة (1990 إلى 1996)، الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة (من 1996 إلى 1998)، ناصر عبدالعزيز النصر (من 1998 إلى 2011)، الشيخ مشعل بن حمد بن محمد آل ثاني (من 2011 إلى 2013)، والشيخة علياء بنت أحمد بن سيف آل ثاني (من 2013 إلى الآن).
وقتذاك تسارعت الخطى لتشكيل هياكل الدولة الوليدة ومنها وزارة الخارجية، التي بدأت بعشرة موظفين تمّ اختيارهم على عجل من الكادر الوظيفي الحكومي من أجل العمل بدائرة للشؤون الخارجية، كان مقرها دار الحكومة (وزارة المالية حالياً).
وكان المطلوب في حينه تأسيس سفارات للدولة في الخارج وتعيين سفراء يديرونها، خصوصاً في لندن (باعتبارها عاصمة الدولة التي منحت قطر استقلالها)، والقاهرة (باعتبارها مقر جامعة الدول العربية)، ونيويورك (باعتبارها مقر هيئة الأمم المتحدة).
وبالنسبة لنيويورك، سافر وفد رسمي لتقديم طلب الانضمام إلى الأمم المتحدة، برئاسة المصري الدكتور حسن كامل مستشار الحكومة القطرية، وعضوية كل من يوسف محمد عبيدان وإبراهيم بن حمد النصر وسالم علي النعيمي، فتمت الموافقة وأصبحت قطر عضواً في هيئة الأمم بتاريخ 21 سبتمبر 1971، وفي عام 1972 وقع الاختيار على الجمال ليترأس البعثة القطرية هناك، وبالفعل سافر الرجل إلى نيويورك وقدم أوراق اعتماده إلى الأمين العام السيد كورت فالدهايم، كما قدم لاحقاً أوراق اعتماده إلى حاكم كندا العام سفيراً غير مقيم لقطر في العاصمة الكندية، أوتاوا.
وعلى حين ذهب بعض مواطنيه للعمل في البحرين لدى شركة بابكو النفطية، اختار هو التوجه للسعودية للعمل لدى شركة أرامكو بمدينة الظهران.
وفي السعودية أمضى يوسف الجمال خمس سنوات من عمره كان يتنقل خلالها ما بين عمله في قطاع النفط بالظهران وعمله في القطاع التجاري بالرياض.
وإبان تلك السنوات الخمس كان والده أحمد (جد المترجم له) يقوم برعاية أبنائه وأسرته في الدوحة.
وظل كذلك دون أن يدري ما تخبئه له الأيام والسنون المقبلة من عمره.
ويصور لنا الجمال العذاب الذي كانوا يقاسونه في ذلك الزمن من أجل التعليم، فيخبرنا أن أماكن تلقيهم لذلك القدر المتواضع من العلم لم يكن ثابتاً، فتارة يتعلمون تحت ظل شجرة، وتارة أخرى يتعلمون عصراً تحت ظل كراجات ديوان الحاكم، ودون أن يسمح لهم بفترة توقف للأكل والشرب.
وحينما تأسست المدارس النظامية الحكومية في الدوحة في أواخر أربعينيات القرن العشرين انتقل إليها، فدرس المقررات المختلفة وفق مناهج التعليم المصرية، وتخرج من المرحلة الثانوية بعد أداء امتحاناتها التي كانت تأتي من مصر وتصحح فيها أيضاً لتواضع البنية التعليمية والتربوية في قطر آنذاك.
وكما جرت العادة في تلك الحقبة، التحق بالعمل وهو على مقاعد الدراسة الإعدادية ليتدبر مالاً بسيطاً يعينه على تكاليف الحياة، فاشتغل ككاتب براتب لم يتجاوز المئتي روبية في إدارة المرور بالدوحة زمن مديرها الزعيم محمد بن عبدالله العطية، وكان معه زميله، الطالب، معالي أحمد خليفة السويدي، الذي سيصبح لاحقاً أول وزير خارجية في دولة الإمارات العربية المتحدة.
وبعد أن اكتسب بعض الخبرة انتقل للعمل، وهو على مقاعد الدراسة الثانوية، بوزارة المعارف التي كانت وقتذاك (قبل الاستقلال) مجرد دائرة.
ومما ذكره عن فترة عمله بتلك الدائرة، زمن رئيسها الشيخ جاسم بن حمد آل ثاني، وجود أنشطة رياضية وحركة ثقافية مكثفة وعروض ومهرجانات كثيرة كان أستاذ الدوحة الرياضي يستضيفها بحضور جماهيري كبير، ولاسيما العرض الذي قدمه الملاكم العالمي الأسطوري محمد علي كلاي هناك زمن تألقه وشهرته المدوية.
ثم واصل دراسته العليا في التخصص نفسه بجامعة نيويورك التي نال منها درجة الماجستير.
وإبان تلك الفترة شغل، إضافة إلى عمله، منصب مدير مكتب وزير المعارف الشيخ جاسم بن حمد آل ثاني لمدة عامين. وظل كذلك حتى عام 1972 حينما وقع الاختيار عليه لتمثيل بلاده في الأمم المتحدة.
ومن هنا لم يكن غريباً على شخص مثله أن يمثل بلاده خير تمثيل في هيئة الأمم المتحدة على مدى 12 عاماً، وأن يحقق باسمها الكثير من الإنجازات مثل السعي مع زملائه العرب للاعتراف باللغة العربية كلغة رسمية من لغات الأمم المتحدة، ودعم المشروعات الأممية للتنمية، والوقوف خلف جهود الأمم المتحدة لمناهضة الاستعمار وتحقيق الحرية لدول العالم الثالث والقضاء على التمييز العنصري، ولعب دور في توحيد صفوف المجموعة العربية في الأمم المتحدة، لا سيما وأن الفترة التي تولى خلالها منصبه الأممي كانت حافلة بالأحداث الكبيرة، مثل حرب أكتوبر سنة 1973، وانتهاء الحرب الفيتنامية، واندلاع الحرب الأهلية في لبنان، ومقتل الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وتغير نظام الحكم في إيران، وتفاقم الأحداث في فلسطين المحتلة، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد وما تلاه من انقسام العرب.
وفي المغرب، واصل الجمال عمله بشغف كبير، كونه من محبي هذا البلد العربي وقيادته الرشيدة حتى عام 1988، وبدا لي ذلك بوضوح حينما التقيته قبل وفاته، رحمه الله، في الرباط، برفقة صديقي الروائي القطري المعروف الدكتور أحمد عبدالملك، شافاه الله وعافاه، حيث كان وقتها قد تقاعد من عمله لكنه كان يتردد على الرباط لتمضية اجازاته فيها وزيارة أصدقائه الكثر هناك.
وهناك قام أيضاً بدور فعال في تمتين وتعزيز العلاقات القطرية النمساوية، بفضل العلاقات التي كونها في نيويورك مع الأمين العام للأمم المتحدة السيد كورت فالدهايم الذي صار رئيساً للنمسا بعد انتهاء ولايته الأممية، وتحديداً ما بين عامي 1986 و 1992.
