الرخاء المستدام

تمر المجتمعات بدورات من الرخاء والازدهار، يتلوها بعد ذلك دورات أخرى من نقص الموارد، وضعف الإمكانيات، هذه الحالة تنطبق على جميع المجتمعات على مر التاريخ، ولكن هناك مجتمعات استطاعت أن تحافظ على استمرار الرخاء، واستدامة الرفاهية؛ لأجيال متعاقبة، وكانت هذه المجتمعات قادرة على أن تحافظ على نمط الحياة المزدهر لقرون متتالية.

جوهر هذه الفكرة يعتمد على رؤية معينة تضمن المحافظة على الثروة، وعدم تركها لأجيال قد لا تدرك قيمتها، ولا تراعي أهميتها، وقد يغرها الثراء فتبذر ما تملك، وتفني ما ورثته عن الآباء والأجداد.

لقد نجحت المجتمعات في التاريخ الإسلامي في المحافظة على ثرواتها، وعلى نمط حياتها من خلال هذه الفكرة العبقرية التي نقلها الأوروبيون عن المسلمين عندما تعرفوا على الحضارة الإسلامية.

هذه الفكرة هي فكرة الوقف، والوقف يعني عدم التصرف في رأس المال، وإنما الاستفادة من العوائد التي يحققها، ومنع الوارثين من أن يتصرفوا في هذا المال بحكم أنه وقف؛ حتى أصبح الوقف وسيلة تطبقها الأسر والمجتمعات للحفاظ على الثروة، سواء كانت تلك الثروة شخصية، أو ثروة مجتمعية.

وفكرة الوقف هنا تنقسم إلى قسمين الوقف الخيري، وهو يكون لفائدة المجتمع في أعمال البر مثل للتعليم ورعاية الفقير الحفاظ على البيئة وعمارة المساجد ورعاية الأيتام والأرامل، وأحياناً يكون الوقف على العلم والبحث العلمي وعلى التعليم وعلى التدريس.

أو الوقف الأهلي أو الذري الذي يكون مخصصاً للذرية في أجيالها المتعاقبة ويستطيع الواقف أن يحدد كيف يتم توزيع الأنصبة، وفائدة الوقف أنه يمنع الوارث من أن يتصرف في المال الموقوف، وإنما يظل المال الموقوف محافظاً عليه ويستفيد الورثة من عوائده فيجتهدون اجتهاداً كبيراً لتعظيم هذه العوائد وزيادة الثمرات التي يدرها هذا الوقف، ومن ثم يحافظون على درجة الرفاهية، والحياة التي كانوا يعيشونها.

المجتمعات العربية المعاصرة خصوصاً في منطقة الخليج تملك من الثروات الكثير وهذه المرحلة هي التي يتم فيها إنشاء الأوقاف كما كان في التاريخ الإسلامي. لأن إنشاء الأوقاف يحدث عندما يصل المجتمع إلى مرحلة من الثراء والرفاهية والغنى؛ في هذه الحالة يتحول هذا الثراء وهذه الأموال إلى وقف للمحافظة عليها.

ومن خلال هذا الوقف يتم استدامة الرخاء واستدامة الرفاهية، وقد بادرت قيادتنا الرشيدة وبدأت في إطلاق مشروعات وقفية كبيرة تشتمل على موضوعات ومجالات متنوعة، لذلك على المجتمع أن يهتم بهذا الموضوع، وأن يحافظ على ثرواته بإنشاء أوقاف أهلية، أو أوقاف ذرية يكون عائدها للذرية من الأبناء والأحفاد لأجيال متعاقبة. إن فكرة الوقف فكرة عبقرية تحافظ على الثروات، وتضمن استمرار الرخاء والرفاهية لأجيال متعددة لا نهاية لها.