الأخطار المؤجلة

نقطة مركزية فاصلة وحاكمة في مشهد الاستقرار الإقليمي والعالمي تتعلق بحالة ظهور الميليشيات والتنظيمات والجماعات العابرة للحدود، تلك الحالة التي غيبت المؤسسات الوطنية من العواصم العربية فأصبحت الخرائط في قبضة مزالق مجهولة تتجدد حسب وصفات صانعي هذه الحالة.

تجرعت العواصم العربية كأس السم في حفلات الفوضى أثناء ما يسمى الربيع العربي.. بعض هذه العواصم تعافى والبعض الآخر لا يزال في انتظار الدواء الناجع.

لا أبالغ إذا قلت إن الحرب الإسرائيلية على غزة هي الحرب الكاشفة لهذه الحالة المستطيرة التي تحتاج إلى تمكين الدولة الوطنية من مفاتيح الاستقرار، بعيداً عن المصالح الضيقة التي قد تطيح في بعض الأحيان بالأفكار العظمى الوجودية.

في هذا السياق ثمة وقفة مع جوهر القضية الفلسطينية حتى نصل إلى الشاطئ بوجود دولة فلسطينية حقيقية وطبيعية. لا شك أن الحرب الحالية الدائرة منذ عامين ستضع أوزارها، وهناك خلف الكواليس مفاوضات وتحركات تقوم بها الدول الوازنة والمسؤولة من أجل إيقاف الحرب وعدم اتساعها، والحفاظ على مقدرات الإقليم وجواره غير العربي.

ومن قبل ومن بعد، الحفاظ على الشعب الفلسطيني متمسكاً بأرضه وهويته وقضيته، وصولاً إلى دولة واحدة طبيعية قانونية لها سيادة على أرضها ضمن حدود معترف بها دولياً، وهي حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

بالطبع، المفاوضات والمباحثات تدور بعيداً عن أعين الإعلام مع الجهات الفلسطينية النافذة لتوحيد الصف أولاً، وتقديم قضية الشعب الفلسطيني على أي قضايا أخرى، والتسامي على مفهوم الأحزاب.

وبالفعل تدور القضية بسرية كاملة لتضع نقاطاً استراتيجية، أولاها توحيد واحتكار السلاح بيد الدولة المرتقبة، والتفاوض من خلال الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين، أي منظمة التحرير الفلسطينية التي يجب أن تضم جميع الفصائل والأحزاب غير المنضوية تحت لوائها.

فلن يقبل العالم الذي يتفاوض خلف الكواليس بوجود الدولة الفلسطينية وبدء الاعتراف بها، وهناك رؤوس تتطاحن حول سلطة هي أصلاً تحت الاحتلال، ولن يقبل هذا العالم أيضاً بوجود سلاح وميليشيات ناتئة على السلطة.

كما قلت إن القضية الفلسطينية ملهمة سلباً وإيجاباً للمنطقة، فقد رأينا بعد خمسة عقود، أن الدول في الإقليم العربي تستعيد مفهوم الدولة الطبيعية التي عبر عنها الألماني، ماكس فيبر، بأن الدولة تحتكر وتمتلك وتستخدم السلاح منفردة.

ولا يزاحمها تنظيم أو حزب أو جماعة، ومع الأسف منذ اندفاع الفلسطينيين إلى تحرير بلادهم من الاستيطان الإسرائيلي، كانوا فصائل وميليشيات وجماعات وتنظيمات، أحياناً تتطاحن مع بعضها بعضاً، وتتناسى الهدف الرئيسي وهو تحرير فلسطين من الاحتلال..

وقد انعكس هذا على بقية الدول العربية التي استلهمت بعض جماعاتها، وتنظيماتها وأحزابها هذا المفهوم الفلسطيني وامتلكت السلاح، واستخدمته في مواجهة الخصوم الذين هم من الطينة والجنسية نفسها.

حين حددت الأمر بخمسة عقود، كنت أعني اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، التي كان للفصائل الفلسطينية فيها نصيب الأسد، وبالطبع لا ننسى مذبحة أيلول الأسود عام 1970 في الأردن، صحيح أن الفلسطينيين خرجوا من الأردن ولبنان منذ أمد بعيد.

لكنهم تركوا بصماتهم على وجود أحزاب وميليشيات مسلحة قلدتهم في أكثر من مكان، خصوصاً مع الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان مرتين عام 1978 وعام 1982.

بعد الخروج الإسرائيلي بقي السلاح في يد حزب الله، وتنامى حتى خرج على سيطرة الدولة التي قررت أخيراً، حصر السلاح بيد الدولة وحدها، وكذلك اتخذ العراق قراراً بالشيء نفسه، ودعا إلى حصر السلاح بيد الحكومة المركزية.

من العراق إلى ليبيا، حيث تأتي الأخبار بدمج المؤسسات المتشظية، وحصر السلاح أيضاً بيد الدولة وإنهاء عمل الميليشيات وتوحيد مؤسسات الدولة.. هذا هو المفهوم الذي أدركته الدولة الوطنية، بعد تجربة مريرة، عندما تهاونت الدول، وتغاضت عن تنامي السلاح والميليشيات.

ونظن أن فلسطين، التي كانت ملهمة في السابق، قادرة على الإلهام من جديد عبر توحيد المؤسسات والأرض، ومنع الانقسام وحصر السلاح بيد المؤسسة الوطنية الواحدة، التي يرتضيها الفلسطينيون، تمهيداً لإعلان الدولة الوطنية الواحدة، إذ لا بديل أمام فلسطين وغيرها، من الدول الطبيعية الوطنية سوى مواجهة حالة التنظيمات العابرة حتى لا تظل أخطاراً مؤجلة.